عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
عندما أزيح الرئيس المصري” الإخواني” من السلطة، قال بعض مُناصريه وبينهم علماء معروفون: إنّ إخراج الرئيس الشرعي من السلطة، هو كمن يهدم الكعبة حجراً حجراً! وكان المعتصمون بميدان مسجد رابعة العدوية يرفعون شعاراتٍ أكثرها انتشاراً: الشرعية والشريعة، أو الشريعة والشرعية. وفي كلتا الحالتين، أي هدْم الكعبة، وربط الشريعة بشرعية مرسي، تصريحٌ من هؤلاء بأنّ إزالة الإخوان من السلطة فيه إضرارٌ كبيرٌ بالدين باعتبار أنهم يمثّلونه في السلطة، ويريدون تطبيق شريعته. والواقع عكس ذلك تماماً، بمعنى أنّ هؤلاء الحزبيين اتخذوا الدين وسيلةً لبلوغ السلطة والسلطان، فأضرُّوا بذلك بالدين والدولة، كما سنحاول أن نوضح.
وفي شهور العام 2013 تدرَّجَ الأمين العام لـ”حزب الله” في تعليل التدخل في سوريا. فقال في البداية إنه يتدخل لحماية شيعة لبنان القاطنين على الحدود بين سوريا ولبنان. ثم قال إنه يريد بتدخُّله حماية المزارات المقدَّسة (الشيعية) في سوريا من تخريبات المتطرفين. وانتهى أخيراً إلى أنّ “التكفيريين” السُنة يقتلون الشيعة بسوريا ويوشكون أن يهدّدوا الشيعة جميعاً خارج سوريا، ولذلك لابد أن يُقاتَلوا قبل استفحال شرورهم! وقد رأينا له صورةً تليفزيونيةٍ مع خامنئي قال بعدها ما معناه أنّ المرشد أفتى وأمر ولذا فهو مستعدٌّ للذهاب بنفسه إلى سوريا، بل وهو مستعدٌّ لمجادلة من يجادلُهُ أمام الله يوم القيامة! وبذلك فإنّ هؤلاء الحزبيين في لبنان والعراق واليمن وإيران يذهبون إلى أنهم بقتالهم في سوريا ولبنان والعراق واليمن وأفغانستان.. الخ إنما يخدمون المذهب الشيعي الذي يقوده مرشد الدولة الإيرانية في سائر أنحاء العالم. والواقع أنّ التحركات الإيرانية سالفة الذكر تُعبّر عن تطلعات وطموحات قومية، وليس لها علاقةٌ بالتشيع والإسلام، بل إنها تُضرُّ بهما وبالشيعة على وجه الخصوص.
ولنبدأ بملفّ الإسلام السياسي “الإخواني” ودعاواه. فجمعيةُ “الإخوان” واحدةٌ من جمعياتٍ كثيرةٍ قامت بمصر والبلدان العربية والإسلامية الأُخرى، إحساساً بالفجيعة بسبب إلغاء أتاتورك للخلافة بتركيا. وقد اعتقد مؤسِّسو الجمعيات أنهم يعوّضون عن الشرعية المفقودة بتركيزها في جمعياتهم أو مجتمعاتهم الخاصة. وما فكرّوا أولاً بإنشاء حزب سياسي مَثَلاً لأنهم اعتبروا أنفسهم معنيين بخصوصيات الهوية والتربية المجتمعية. بيد أنّ تركيز “الشرعية” بشتى جوانبها في الجمعية، حوَّلها إلى تنظيم، وبالفعل ففي مطلع الأربعينيات من القرن الماضي أسَّس البنا في قلب الجمعية: التنظيم الخاصّ المعني باستخدام القوة لفرض “الشرعية”. وذكر في الوقت نفسِه أنّ الإسلام دينٌ ودولةٌ ومصحفٌ وسيف! وعبر عدة عقود جرت عمليات “تحويل” للمفاهيم بحيث تحول الأمر في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي إلى منظومةٍ متكاملةٍ من المقولات الاعتقادية وهي: الإسلام دين ودولة. وقد سقطت دولة الإسلام بإلغاء الخلافة فزالت الشرعية، ولابد من استعادتها. وتنظيم “الإخوان” هو تنظيم “الفتية الذين آمنوا بربّهم”، وهمّهم في هذه الدنيا استعادة الشرعية إلى الدولة والمجتمع. والوسيلة الوحيدة للوصول لذلك أخذ السلطة السياسية بأيدي التنظيم الطليعي هذا. وعند حصول “التمكين” يجري تطبيق الشريعة فتُستعادُ الشرعية للدولة أولاً وللمجتمع ثانياً. وهذه المقولاتُ جميعاً باطلةٌ من الأساس. فالشرعية حتى لو كان لها ارتباط بالدين، تتركز في المجتمعات، التي يتركّز فيها الدين، وتتبادلُ معه الاحتضان. أمّا النظام السياسي، فيأتي ويذهب ويتغير ويتعدل دون أن يرتبط ذلك التغير بحضور الدين أو اختفائه وقوته أو ضعفه. وقد جاء في القرآن الكريم التعبير الأجلى عن “الامتلاء” أو “الاكتمال” للدين والشرعية بغضِ النظر عن الحالة السياسية في الوقت: “اليوم أكملتُ لكم دينكم، وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام ديناً”. وقد قال علي عبدالرازق لمعاصريه إبّان إلغاء مصطفى كمال لمنصب الخليفة هذا الكلام ذاته: الشرعية متركّزةٌ فيكم أيها المصريون وليس في هذا المنصب أو ذاك. وقراركم أنتم هو الذي يصنع الشرعية أو ينفيها وليس أي مجموعةٍ حزبية. وقد كان الأمويون والعباسيون يزعمون تارةً أنهم يحمون الدين، وأنهم إنْ زالوا فسيزول، ويزعمون تارةً أُخرى أنّ الدينَ والشريعة والقضاء والقدر، كلُّ ذلك هو الذي أوصلهم للسلطة، ولن يستطيع أي فريقٍ مُعارضٍ تنحيتهم لأنه بذلك يصطدم بالدين والشريعة والقضاء والقَدَر! تماماً مثلما قال أتباع مرسي إنّ الكعبة ذاتها توشك أن تنهدم لأنّ مرسي أُزيل من السلطة فزال الدين من مصر! طيّب، مُرسي في السلطة منذ عامٍ فقط، فماذا كان قبل ذلك؟! لا دين ولا شرعية بمصر قبل الإخوان ومُرشديهم؟! لقد أضرَّ هؤلاء بالدين والمجتمع عندما علّقوا شرعيتهما على وجودهم. كما أضرُّوا بالدولة عندما أَوهمونا أنه لا يصلحُ لها غيرهم. وقد ثبت أنهم الأقلُّ كفاءةً في إدارة الشأن العامّ، فضلاً عن ظُلمهم للدين وسكينته، وللمجتمعات وأمْنها ووحدتها. فالإخوان وجماعات الإسلام السياسي الأُخرى انشقاقاتٌ بداخل الإسلام، وهي تُمارسُ استقطابات وانفصاليات واستنزافات للدين والدولة والمجتمعات!
أمّا ولاية الفقيه فهي الصيغة الشيعية للإسلام السياسي. وقد استند رجال الدين بإيران والعراق ولبنان إلى أفكار “الإخوان” في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، لسحْب الشرعية من الدولة الوطنية الإيرانية. وما فكرّوا يومَها في المؤسسة الدينية الشيعية، التي كانت تقليديةً ومُوالية للشاه الأب والابن. ثم ظهر الخميني الكاره للشاه والمعارض له، فأخذ أفكار تلامذته المتأثرين بـ”الإخوان” والإحيائيين السُنة وأعاد صياغتها في رسالته: “الحكومة الإسلامية” بحيث تُسحب الشرعيةُ من نظام الشاه، وتُعطى للفقيه الذي مدَّ ولايته إلى الشأن السياسي بعد أن كانت مقصورةً تقليدياً على الشأن الديني! ولولا هجوم صدام على إيران بعد الانتفاضة على الشاه مباشرةً، لما استطاع الحكم الديني الجديد الاستمرار في السلطة هناك حتى الآن. ففي سلطة رجال الدين بإيران، قامت سلطة استبدادية هائلة الاتّساع، وأكثر فظاعةً من الناحية القمعية من سلطات الشاه، وبالأدوات ذاتها. بيد أنّ الجانب الآخَر لمسألة الممارسة السلطوية هو أنها مثل الأُمويين والعباسيين والفاطميين تربط الدين والمذهب بها باعتبارها تقوم بتطبيقهما، وبذلك لا شرعية دينية ومذهبية بدونها، بعكس ما كان عليه المذهب الشيعي تقليدياً. إذ كان لا يقول بالدولة إلاّ بعد عودة الإمام الغائب أو ظهوره. وبذلك فإنّ عمليات تحويل المفاهيم لطبائع الدين جرت في الفكر الديني الشيعي، كما جرت في التفكير الديني السُني. وهي أفظع عند الشيعة لأنّ الذين قاموا بها قسمٌ من رجال الدين، وقعت بأيديهم مقدرات الدولة الإيرانية الغنية.
وقد حدث للمذهب الشيعي في ظلّ ولاية الفقيه أمران آخران ما استطاع “الإخوان” ومشابهوهم عند السُنة إنجازها. الأمر الأول أنّ الهالة الدينية، وإمكانيات الدولة الإيرانية استُخدمت من أجل السيطرة على الشيعة خارج إيران، واستحداث وعي لديهم وتنظيمات باعتبارهم أقليات مظلومة تحررها القيادة الإيرانية. والأمر الثاني أنّ القيادة الدينية الإيرانية، ولكي تستجيب لها النُخَبُ الوطنية اعتبرت نفسها ممثّلةً أمينةً ( مثل الشاه وأكثر) لمطامح ومطامع القومية الإيرانية بالمحيط والمنطقة. وبذلك فقد أساءت للدين والمذهب وإيران بشكلين: الأول جعل الشيعة مخوفين أو مكروهين في مجتمعاتهم وبين بني قومهم أو مشكوك في ولائهم على الأقل؛ وبخاصةٍ أولئك الذين استجابوا لإيران وأنشأوا بمساعدتها تنظيمات مسلَّحة وغير مسلَّحة. والشكل الثاني: أنّ هذا التناظُر بين ولاية الفقيه والمطامح القومية الإيرانية، أعطى إيران والمذهب الشيعي طابعاً عدوانياً صار معروفاً عن “الجهاديين” السنة. لكنّ الجهاديين والإباديين ليس هناك دولة مسؤولة عنهم؛ بينما تُصرُّ إيران علناً على مسؤوليتها عن كلّ هذا العنف في جوارها العربي، وبقاع الأرض الأُخرى. وبالطبع فإنّ في ذلك إضراراً بالدين والمذهب والإيرانيين وعلاقاتهم بالشعوب الإسلامية الأُخرى.
وهكذا لابد من العمل ضد هذين الانشقاقين بداخل الإسلام، لكي نستطيع صون الدين من الانقسام والتسخير، والدول والمجتمعات من الاستنزاف والحروب الداخلية.
المصدر: صحيفة الإتحاد