نظَّمت الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف أمس، في فندق جميرا أبراج الاتحاد في أبوظبي، ندوة بعنوان: «الإمارات في مواجهة الإرهاب.. مرتكزات شرعية وجهود وطنية»، تحت إشراف وزارة شؤون الرئاسة، وبحضور الشيخة لبنى القاسمي، وزيرة الدولة للتسامح، والعلَّامة الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، والدكتور محمد مطر الكعبي، رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، الأمين العام لمنتدى تعزيز السلم، والعلماء ضيوف صاحب السموّ رئيس الدولة، حفظه الله، وجمهور كبير من العلماء والباحثين والمنظمات والأكاديميات والجهات المعنية.
وثمَّن الشيخ بن بيه، عقد هذه الندوة المهمة في أرض الإمارات الطيبة المباركة المتسامحة المعطاء، وهو يأتي رداً على الدعاوى الضالة التي انزلقت فيها الأمة إلى منزلق خطر يقتل بعضها بعضاً خلافاً لكل تعاليم الإسلام السمحة.
وحذَّر من مغبة الاقتتال الذي يؤدي إلى فناء الأمة، لافتاً إلى أن اجتماع العلماء في هذه الندوة يؤكد أهمية تماسك الجبهة الفكرية، وقدرتها في الرد على الفتاوى والدعاوى الضالة التي أوصلت الأمة إلى ما وصلت إليه الآن، ومواجهة الجماعات الإرهابية بالحجة والبرهان، ليدحضوا دعواها، ويثبتوا بهتان تأويلها.
وقال: «إن الإرهاب وصل إلى كل مكان شوَّه صورة الإسلام والمسلمين، وجعلهم في خانة الاتهام الدائم، وإن دولة الإمارات بتسامحها وتراثها الأصيل، ونهجها النبيل، وقيادتها المتنورة التي فهمت العصر وبقيت مع الأصل، استطاعت القيام بأعمال كبيرة لنشر روح التسامح والسلام التي هي روح الإسلام، ليس داخل الدولة، فقط، وإنما في البلاد العربية والإسلامية وفي العالم كله، وهو جهد مشكور تتبناه دولة الإمارات بقيادة صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وأخيه صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي ،رعاه الله، وأخيهما صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وإخوانهم أصحاب السموّ أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد حكام الإمارات».
وأضاف: «اليوم عندما نلتقي هنا فإنّا نلتقي للتذاكر، ولنهيئ العدة، وعدتنا ليست سلاحاً، بل هي تقديم النص والتأويل الصحيح، والمذهب السديد والجادة المستنيرة للمسلمين، وإن بناء المستشفيات، وتهيئة الهيئات الخيرية لإطعام الطعام هو عمل كبير، ولكن الأهم من ذلك أن يسود الأمن الذي يتقدم على الصحة وإطعام الجياع، فمن دون الأمن تفقد كل تلك القيم معناها، ونحن هنا نحاول تقديم مجموعة من المفاهيم الصحيحة التي ينبغي للأمة أن تتلاقى عليها بدلاً من أن تتلاقى على الأفكار الضالة المضلة التي لا تزيدها إلا هلاكاً».
ودعا العلماء إلى تحديد المنهجية الصحيحة التي على أساسها يمكن مواجهة الفكر الضال المنحرف، وتتمثل بالجمع بين النصوص الشرعية في بيان أن الشريعة هي جملة واحدة وليست مُجزَّأة، مشيراً إلى أن الحروب العقدية أهلكت الحرث والنسل وأبادت المجتمعات، لذا لا بدّ من تكوين خطة واحدة وحلف حقيقي لمواجهة أحلاف الباطل، لإيقاف النزف وإخماد الحرائق».
ثم ألقى الدكتور الكعبي، كلمة افتتح بها أعمال الندوة قائلاً: «في ظل قيادتنا الرشيدة، برئاسة صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان،حفظه الله، وفي هذه الأيام المباركة من شهر رمضان المبارك، وعلى أرض التسامح والاعتدال، والرقي الإنساني، أرحب بالمشاركين الذين يثرون هذه الندوة بالمرتكزات الشرعية في مواجهة الإرهاب، وهي المرتكزات التي أصبحت مشتركة بين دول العالم المتحضر كافة، والكل يدفعون اليوم ضريبة التكنولوجيا المعاصرة، فما دام الفضاء التكنولوجي مفتوحاً بلا ضوابط ولا رقابة ذكية، فإن الإرهاب سيضرب في كل مكان من العالم، محاولاً بث الرعب والفوضى، لعرقلة التقدم الحضاري، وزعزعة جسور التعاون بين الأمم والشعوب، وعليه فإن المواجهة يجب أن تكون عالمية، والجهود متضافرة، والمبادرات مفتوحة، كما تفعل هذا الآن المؤسسات الرسمية والمنتديات الفكرية بين دولة الإمارات والمحيط الإقليمي والعالمي، وفق منهجية الاعتدال والتسامح، لتجفيف منابع التطرف والإرهاب».
وأضاف: «يأتي على رأس هذه المؤسسات التي نهضت بمسؤولياتها في التصدي لهذه التيارات الإرهابية العابرة، مشيخة الأزهر الشريف والهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، وكثير من المؤسسات والمنتديات الفكرية التي تتشارك معنا في هذا النهج، بتبادل الرأي و المشورة، وإصدار الأحكام الشرعية الواضحة واتخاذ المواقف الحكيمة والحازمة، ضدَّ كل من يشوه نقاء ديننا الحنيف ويؤرق أمن مجتمعاتنا المسلمة، ويعكر صفو أوطاننا، ويعرقل مسيرة نهوضها وتطورها وازدهارها.
وألقت الشيخة لبنى القاسمي، كلمة ثمَّنت فيها دور الهيئة العامة للشؤونِ الإسلاميةِ والأوقافِ على جُهودِهِم المُخْلصةِ ومَساعِيهِم الحَثيثةِ في تأْصيلِ قِيَمِ التَّسامُحِ والاعْتدال، آملة بالخُروجِ من الندوة بتوصياتٍ مُهمةٍ تُرَسِّخُ فِكْرَ الوسطيةِ في مُواجهةِ الغُلوِّ والإرْهابِ والعصبية، وتُعَزِّزُ قِيَمَ التَّسامُحِ في مُواجهةِ العُنفِ والتَّمييزِ والكراهية.
وقالت: «إنَّ دولةَ الإماراتِ قيادةً وحكومةً وشعباً تُجَسِّدُ قِيَمَ التَّسامُحِ والتَّعاضُدِ والتَّآخي والتَّرابُط، لأنها تَنطَلِقُ مِنْ ثوابتَ راسخةٍ مَبنيةٍ على أساسِ الاحترامِ المُتبادلِ والتَّفاهُمِ والحِوارِ والتَّعاون، ونبذِ كل أشْكالِ الإرْهابِ والعُنفِ والتَّطرُّف، وتحتضنُ أكثرَ من 200 جنسية، يعيشون بكرامةٍ وسلام، ويعملونَ بتقديرٍ واحترام، ويتواصلونَ بتناغُمٍ وانسجام. كما تحرصُ على تعزيزِ قِيَمِ التَّسامُحِ والسَّلامِ ومُواجهةِ التَّطرُّفِ والإرْهاب، في ظلِّ التوجيهاتِ السَّاميةِ لصاحبِ السُّمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وأخيهِ صاحبَ السُّمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وصاحبَ السُّمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان».
وختمت الوزيرة كلمتها قائلة: «إنَّ مُكافَحَةَ العُنفَ والتَّطرُّفَ والإرْهاب، تعتمدُ بصورةٍ أساسيةٍ على تنميةِ الثَّقافةِ والفِكْرِ والوعي، وَدَعْمِ الحِوارِ بينَ الجنسياتِ والأدْيانِ والثَّقافات، وإعدادِ التَّشريعاتِ والقوانينِ القادرةِ على تجريمِ الأفكارِ الدَّاعيةِ إلى التَّمييزِ والكراهيةِ والتَّطرُّفِ والعُنصرية، والحدِ من انْتِشارِها، وتجْفِيفِ مَنابِعِها، والتَّصدي للمنظماتِ والجِهاتِ التي تُوَلِّدُهَا، فنحنُ بحاجةٍ مُلِحةٍ اليوم، كما قال صاحبُ السُّمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، إلى إعادةِ إعمارٍ فِكْريٍّ يُرَسِّخُ قِيَمَ التَّسامُحِ والتَّعدديةِ والقبولِ بالآخرِ فِكْرياً وثقافياً وطائفياً ودينياً».
وأكد مقصود كروز، المدير التنفيذي للمركز الدولي للتميز لمكافحة التطرف العنيف «هداية»، أهمية المواطنة العالمية، التي يمكن من خلالها تحقيق الاتصال العالمي المنشود، وتأكيد مبدأ أنه مازال بالإمكان أكثر مما كان، مستعرضاً نماذج تطبيقية تتعلق بالفضاء الافتراضي، الذي تحول واقعاً معيشاً في كل لحظة.
وعرض عدداً من قصص المتطرفين الذين ينتمون إلى مختلف المشارب الذين التقاهم المركز الذي يعمل على إيجاد البدائل المختلفة من خلال برامج الوقاية والتحصين على المستوى النفسي والاجتماعي والثقافي، عبر المبادرات المتعددة.
ومن القصص التي عرضها، قصة متطرف من النازيين الجدد، الذي أخبر المركز عن عداوته الشديدة للعرق الأسود واعتقاده أنه يستحق القتل، إلا أن نظرته هذه تغيرت بعد مداومته على شراء الطعام من أحد المطاعم الذي كانت تعمل فيه امرأة سمراء، إذ إنه كان يشمئز منها كلما ذهب لشراء الطعام، لكنها تبادله بالابتسامة وأسلوب راق واحترام، فيذهب إلى بيته ويبكي ويرفع صوت الموسيقى ليحاول معالجة التناقض بين معتقده المتطرف الفاسد وتجربته العملية، حيث إنه رأى في هذه المرأة الحب والخير، وفي أحد الأيام وكان يخبئ هويته الحقيقية، لاحظت المرأة بعضاً من الوشوم على جسده التي تعبر عن انتمائه، فنظرت في عينيه وقالت له: «أنت أفضل من هذا»، فاغرورقت عيناه، وتأكد أن فكره فاسد وأن الطبيعة البشرية هي برحمتها وإنسانيتها وأن الجميع في الحياة متساوون.
وأضاف: «مبدؤنا في المركز أن هناك دائماً من يدعون إلى ثقافة الموت والتدمير، وما نحتاج إليه هو الدعوة إلى ثقافة الحياة، ثقافة التعمير». لافتاً إلى أنه من النماذج التطبيقية كذلك دور التعليم في مكافحة التطرف، وفي هذا الصدد أصدر المركز «مذكرة أبوظبي عن الممارسات الجيدة لدور التعليم في مكافحة التطرف العنيف»، ولا يخفى أن كل أشكال التطرف إنما تبدأ بفكرة تولد لدينا استجابة انفعالية تؤدي إلى سلوك عنف أو إرهاب، وفي هذه المراحل المتعاقبة والمستويات الثلاثة يمكننا أن نتدخل ونعالج ونضع البرامج الوقائية. ومن هنا وجدنا أن توليد مهارات التفكير النقدي لمساعدة أبنائنا وبناتنا على التفكير بالمقولات وتفكيك الأطروحات وإيجاد كل العلل في المسائل التي أمامهم، وإيجاد الحل الناجع لكل القضايا المطروحة، لاسيما أنه في الفضاء الإلكتروني الحالي يكاد من المستحيل، أن نتمكن من مراقبة كل ما يقوم به أبناؤنا وبناتنا، ولكنني أزعم أننا إذا زرعنا بذور الوقاية واستطعنا أن ندربهم على إيجاد الآليات والأدوات، فإنهم لا محالة سيتمكنون من التعامل مع هذه التحديات».
وختم كلمته قائلاً: «قبل عشر سنوات كنا ننظر إلى القاعدة على أنها التهديد الأكبر، واليوم نتحدث عن «داعش»، والسؤال الذي يطرح نفسه للمستقبل: «ما مستقبل هذه التنظيمات على ضوء ما نرى من تغير وتحول وتشتت، لذلك فإنا مهما ألصقنا من مسميات لهذه التنظيمات، فالأساس هو إيجاد أساليب وقائية وبرامج للتعامل مع هذه الظاهرة. وفي الختام المستقبل هو ما نريد أن نكون فأي مستقبل نريده لأبنائنا وبناتنا».
التوصيات:
صدر عن ندوة «الإمارات في مواجهة الإرهاب»، عدد من التوصيات، منها: المنهجية الأصولية عند العلماء الراسخين منهجية دقيقة منضبطة تقوم على معادلة مركبة ثلاثية الأبعاد وهي: الدليل الجزئي والدليل الكلي، ومراعاة السياق، فالشريعة تؤخذ كالصورة الواحدة يكمل بعضها بعضاً.
وأكدت أن من أهم خصائص المنهج الاستدلالي للفكر المتطرف: هدم النسق الفقهي الكلي الذي يوازن بين ثلاثة أصول: الشريعة نصوصاً ومقاصد، ومنظومة المصالح والمفاسد، ومراعاة موازين الزمان والمكان، فضلاً عن أن آفة الاستدلال الفاسد التي يقوم عليها الفكر الإرهابي: القفز على جملة من القواعد المعتبرة عند التعامل مع النصوص الشرعية كقاعدة الجمع، والنسخ والسياق وتحقيق المناط واعتبار المآل والنظر الكلي.
وشددت على أهمية العناية برصد وتتبع الاستدلالات الفاسدة بنصوص القرآن والسنة، وتفنيد شبهها وأحكامها بالحجة والبرهان، محذرة من أن الاعتداء على الآمنين والمستضعفين وغير المحاربين، وعلى الأرواح والأموال ودور العبادة ومقدرات وممتلكات الوطن، سواء مارسه أفراد أم جماعات أم دول فهو (الترويع ) الذي حرمه الإسلام وغلَّظ عقوبته بحد ( الحرابة ).
كما أكدت أهمية التحفيز على التواصل والحوار الأسري، الذي يكسب الأبناء مبادئ الحقائق الصحيحة، والبعد عن الانحرافات الفكرية والسلوكية، وضرورة التوعية من خطورة الإرهاب الإلكتروني وأنه الداء المحدق بالأفراد والمجتمعات.
المصدر: الخليج