عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
صدر لي في عام 2005 كتابٌ عنوانه «الصراع على الإسلام». وفكرتُهُ الرئيسية أنّ هناك صراعاً مَهولا على الدين الإسلامي للقبض على روحه أو على نقاط القوة والتماسُكِ فيه، والجهات الرئيسيةُ المشاركةُ فيه ثلاث هي: الأصوليون الانشقاقيون الذين سمَّوا أنفُسَهُمْ: السلفية الجهادية. والجهةُ الثانيةُ هم الدَوليون، وبخاصة الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وقد انضمّ إليهم الروسُ والصينيون والهنود. والجهة الثالثةُ أنظمةُ الحكم السائدة في العالمين العربي والإسلامي. وتختلفُ أهدافُ الجهات الثلاث، لكنّ النتائج واحدة، وهي المزيد من شرذمة هذه الكُتَل الضخمة والهائلة والتي يبلُغُ عددُها اليوم ملياراً وخمسمائة وخمسين مليوناً. فهذه المجموعات الضخمة والحشود الهائلة تسيطر على شبابها منذ عدة عقود ما يمكن تسميتُه بالتشاؤمية الثقافية. ذلك أن هؤلاء يحسُّون بضيق وانقباض في هذا العالم المحيط بهم، ويعبرون عن هذا القلق الكبير بأساليب مختلفة منها العنف ومنها التديُّنُ الشديد المنقبض، ومنها اللامبالاة والإحساس بانعدام الهدف.
لكننا عندما نتجاوزُ الأمر الثقافي أو الديني إلى الأمر الاستراتيجي، فإننا ندخل في مجال مختلف تماماً. فالأمر الاستراتيجي يرتبط فيه الثقافي والسياسي بالجغرافية أولا وبالدول وسيادتها ثانياً. ولذلك فقد أدركْتُ ومنذ عام 2006 أنّ المتجسِّد على الأرض، رغم مظاهره المتكاثرة، هو بالدرجة الأولى صراعٌ على العرب وليس على الإسلام. ما كان في العراق أصوليون ولا «قاعدة». لكنّ الأميركيين غَزَوهُ مباشرةً عام 2003 بعد غزوهم لأفغانستان عام 2002. قالوا وقتها إنهم يغزونه ليس من أجل مكافحة الإرهاب فقط، بل ومن أجل مكافحة سلاح الدمار الشامل الذي يوشكُ أن يُنتجه. إنما بعد ستة أشهر فقط من الغزو، اضطُرّ الأميركيون للإعلان عن أن العراق لا يمتلك سلاحاً نووياً ولا كيماوياً، ولا علاقة له بالإرهاب، وإنما غَزَوهُ من أجل إسقاط حكم الاستبداد، ونشر الديمقراطية فيه وفي بقية أنحاء العالم العربي!
ماذا كان عليه الوضع في العالم العربي أو ماذا آلَ إليه بعد غزو صدام حسين للكويت عام 1990؟ فيما عدا منطقة الخليج والأردن والمغرب، سادت في العالم العربي منذ الستينيات أنظمة عسكرية، تحالفت مع أحد طرفَي الحرب الباردة، ثم انضوت جميعاً تحت لواء الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1990. في عام 1994 أصدر الباحث السياسي المصري نزيه الأيوبي كتاباً سمّاه: «تضخيم الدولة العربية»، قال فيه إنّ الدولة العسكرية العربية حدثت فيها انسدادات مُحْكمة وقاسية، فقدت بمقتضاها كلَّ وظائف الدولة إلا الوظيفة الأمنية القمعية. وتنبأ الأيوبي أن تكون هذه الأنظمةُ أبديةً، ولا تُزعجها غير تمردات مسلَّحة باسم الإسلام، تساعد الولايات المتحدة الأنظمة على قمعها.
وفي عام 2011، بدأت حركات تغيير في كل مكان في العالم العربي، وخاصة في الدول ذات الأنظمة العسكرية والأمنية. وجاءت حركات التغيير هذه من جانب فئات ما توقّع حركاتِها أحد. ولأهداف ما توقعها أحدٌ عند العرب بالذات. فقد تحدث الشبان الثائرون عن الحرية، والحكم الصالح، ومكافحة الفساد. ولأن العالم العربي كان منقوصَ السيادة، ومنتَهَك الحدود، فقد كان متوقعاً بالفعل أن يواجه شبانُ الثورات عنفاً من جانب الأنظمة السائدة، ومن جانب القوى الإقليمية المتحالفة معها، ومن جانب القوى الدولية. وكانت النتائج للموجة الثورية الأُولى هذه ما نشهده في كلِّ مكان انطلقت فيه معارضات وقوى تغييرية: ما حدث تدخل عسكري في مصر وتونس، فكان العنف أقلّ، لكن الإسلام السياسي الذي حظيَ بشعبيةٍ بسبب فشل الدولة الوطنية، ما استطاع الإقلاع وسط الحالة الجديدة للناس المتطلعين للحرية والعدالة والبناء. وحدث تدخل عسكري في ليبيا وسوريا، فاشتعلت حروب شبه أهلية ما تزال مندلعةَ الأُوار حتى اليوم. أما اليمن فيواجهُ عدة تحديات رغم عدم التدخل العسكري، وظواهر هذه التحديات موجودة في سائر بلدان الثورات: هناك في اليمن الحوثيون الذين تدعمهم إيران. وهناك قوى في جنوب اليمن تريد العودة للانفصال. وهناك مناطق توطّنت فيها «القاعدة» وهي تمارسُ عنفاً ضد الأجهزة الأمنية والعسكرية.
إن حدوث التغيير بالطريقة الصاعقة التي حدث بها أثار قَلَقَ الدول الخليجية التي ما بقي غيرها مستقراً في المشرق العربي. ولأن الخطر اقترب منها في البحرين واليمن، فقد تدخلت عسكرياً في البحرين، وفرضت حلا سياسياً في اليمن ما نجح حتى الآن لكنه حال دون الحرب الأهلية، ثم تدخلت في مصر لدعم التغيير الذي نحَّى «الإخوان المسلمين» عن السلطة. وقد حاولتْ في البداية استيعابَ المتغيرات في بقية الأنحاء بالتعاون مع المجتمع الدولي والجامعة العربية. وهكذا دعمت قراراً دولياً بالتغيير في ليبيا، وقراراً دولياً آخر باحتواء التوتر في اليمن، واتخذت عدة قرارات في الجامعة العربية والأمم المتحدة لوقف العنف من جانب النظام في سوريا. بيد أن القرار الدولي الذي فعل في ليبيا واليمن، وقف في سوريا عاجزاً أمام معارضة روسيا والصين.
ما هي الآثار الاستراتيجيةُ للأوضاع السائدة على العرب؟ يكونُ علينا قبل الدخول في استطلاع هذا الأمر، أنّ نقولَ كلمةً عما كانت عليه الأُمور عشية اندلاع حركات التغيير تلك. في القمة العربية التي انعقدت بمدينة سِرت الليبية في ربيع 2010 سمّى وزير الخارجية السعودي الحالة العربية بأنها حالة «الخواء الاستراتيجي». فإيران هاجمةٌ في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين. والأميركيون ينسحبون من العراق ويتركون البلاد لإيران استناداً إلى اتفاق وليس بالمصادفة أو بالتداعي. والسودان انقسم إلى دولتين، وحافل بالاضطراب. والحرب الصومالية نُسيت لطول مدتها. والدول العربية تنفرد كلٌّ منها بعلاقات خاصة بالأطراف الدولية، هي أفضلُ من علاقاتها بعضها ببعض. والقضية الفلسطينيةُ في مهبّ الريح. وانتهى الفيصل إلى القول: ليست المنظومة العربية في خطر فقط؛ بل إن الانتماء العربيَّ ذاتَه في خطر!
وإذا كانت حالةُ الأمة على هذا النحو في عام 2010، فماذا يكونُ عليه الأمر اليوم، وفي المستقبل القريب؟ نحن في وضع جديد بالفعل. وهناك خمسة متغيرات: خروج الناس إلى الشارع أو إلى السلاح وهؤلاء بالطبع لا يمكن أن يخضعوا من جديد. وهناك تدخُّلات إقليمية ودولية كبيرة تريد جميعاً إعادة الأمور إلى الأوضاع السابقة، حيث كانت الدول العربية تنقسم إلى قسمين: دول منكفئة على ذاتها، ودول تحولت إلى مناطق نفوذ لقوى إقليمية ودولية. وهناك ثالثاً ثوران أُصولي جديد باسم الإسلام مليء بالدماء والاختراقات. وكان في موجته الأولى ضد الولايات المتحدة والغرب وروسيا، وهو اليوم ضد إيران. وهناك رابعاً نظام دولي جديد متعدد القوى والأقطاب. فقد استطاعت الأصولية الإسلامية في هذه المنطقة من العالم أن تكْسِر الهيمنة الأميركية رغم الحروب على الإرهاب. فالولايات المتحدة تنحسر سطوتُها اختياراً من جهة، وتشفياً من جهة. وروسيا هاجمة لاتخاذ مكان متميز في النظام الدولي الجديد. وهناك خامساً تحدٍ عظيم الأعباء على العرب جميعاً وهو التمكُّن في هذه الظروف القاسية من تجديد تجربة الدولة الوطنية العربية، وإقامة أنظمة للحكم الصالح في البلدان الأساسية التي قامت فيها الثورات. لقد فشلت الدولة الوطنية العربية في حقبة العسكريين الطويلة، إنما لا بديل عنها إلا بإقامة الأنظمة المدنية الديمقراطية ذات الحكم الصالح.
وفي النهاية، ولولا الهَولُ السوري، والتغولُ الإيراني، لقلتُ إن وضعنا اليوم أفضل بكثير مما كان عليه في عام 2010. المتغير الرئيس الباقي هو أولويةُ فكرة الحرية والحكم الصالح عند الشباب.
المصدر: الاتحاد