عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
كان المشهد نزاعيا جدا من حول الأزمة السورية. فالخلاف لم يقتصر على التجاذب الأميركي والأوروبي من جهة، والروسي والصيني من جهة ثانية. بل تعدى الأمر ذلك إلى الإيرانيين وأتباعهم الذين يتفقون على الأسد ونظامه ويقاتلون معهما، والأتراك الذين صاروا يعادون النظام السوري، ويساعدون المعارضة السياسية، لكنهم لا يريدون مخاصمة طهران رغم انزعاجهم منها لعدة أسباب منها السوري، ومنها الكردي، ومنها العراقي. وقد أتت فترة خيل فيها لعدة أطراف أنه ما عادت هناك مصلحة لأحد باستمرار النزاع والحرب إلا للطرف الإيراني الذي يعرف أن الوقت سيحل عندما لا يعود هناك إمكان للخروج من النووي وحصاراته غير المسالمة والتفاوض. إنما عندما يأتي ذلك الوقت، أي أوراق تكون بيده؟ طبعا العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن… إلخ. وكل هذه البلدان عربية، والمشترك بينها وهو الذي استطاعت إيران استخدامه: وجود شيعة (عرب بالطبع) فيها. وما دام الأمر كذلك، فإن هذه الجهود الإيرانية الهائلة على مدى عقدين وأكثر قد آن أوان استثمارها في تسوية الملف النووي. ولذا فإنه في الوقت الذي عرض فيه الرئيس روحاني على الغربيين التفاوض الودود في خطابه بالأمم المتحدة؛ فإن الحرب ازداد اشتعالها في سائر البلدان العربية التي ذكرناها، والتي لإيران فيها يد ورجل!
هناك من يخاف ويراهن على المبادلة أو المقايضة: تؤجل إيران النووي العسكري، وتحصل على صفقة بالبقاء والنفوذ في سوريا والعراق ولبنان. أما اليمن والبحرين – بحسب هذا الرأي – فإن إيران ستخرج منهما من أجل تسوية محتملة مع دول الخليج! بيد أن هناك من يقول: إن إيران تريد الخروج من النووي من أجل التخلص من الحصار، وليس من صالحها – بخلاف الفترة السابقة – تنصيب الشيعة أعداء للسنة في بلدانهم، كما أنه لم يعد بمقدورها إنفاق المليارات من الدولارات على الأسد وحزب الله وحتى في العراق! ولذلك فإن مقاربة روحاني جديدة وليست تساومية مثلما كان عليه الحال طوال أيام نجاد. إنما، أيا كان السبب، وأيا كانت النتيجة، يبقى السؤال المشروع: لماذا استطاعت إيران نشر الاضطراب في العالم العربي (حتى في مصر وفلسطين ودون وجود شيعة)، وما أمكن لأحد أن يزعزع استقرارها الداخلي رغم تنوعه الشديد؟!
ليس من شك أن العرب على وجه الخصوص (إلى جانب بعض الشعوب الإسلامية الأخرى) يعانون من اختلالات وطنية/ قومية ودينية. وهناك عوامل مختلفة أدت إلى هذين الاختلالين أو الاختلالات. فمن الجانب القومي، أدت تطورات الدولة الوطنية العربية بعد استيلاء العسكريين عليها، وإلغاء الانتخابات والدستوريات، إلى سيطرة أقليات إثنية ودينية وثقافية وجغرافية/ محلية على السلطة، وغلبة الأمن واعتباراته على مدى عقود، إلى شرذمة الصف القومي ثم الوعي القومي ثم الوعي الوطني ولدى العامة بالذات. ولذلك فقد قامت تحالفات واعية ضمن السلطة بين الأقليات من الأنواع السالفة الذكر، تقودها دائما أقلية قائدة يستتر مقدمها باللباس العسكري، وفي سوريا والعراق وليبيا والجزائر والسودان وتونس وموريتانيا وحتى لبنان. وفي أواسط التسعينات من القرن الماضي، بدا التشرذم الوطني والقومي في ذروته، إلى الحد الذي صار يظن أن استمرار الطغمة الحاكمة هو الضابط الباقي لوحدة الأوطان والسلطات (!). ولذلك فإن المفكر المعروف محمد جابر الأنصاري سخر في التسعينات من مقولة أرنولد توينبي العائدة إلى أواخر الخمسينات من القرن الماضي، والتي تقول، إن «العرب هم الأكثر توحدا في العالم من سائر النواحي والوجوه، ولذلك لن يأتي عام 1974 إلا وقد أقاموا دولة واحدة!» وعندما قامت الثورات العربية أخيرا انذعرت سائر الأقليات بسوريا ولبنان والعراق (الأكراد) والسودان، باعتبار أن حركة الأكثرية العربية في المنطقة تهدد سلطات تلك الأقليات وامتيازاتها. بيد أن أحدا لم يجرؤ على الحركة في الشهور الأولى، بسبب الفوز الأكثري في مصر وتونس، والتدخل الخارجي في ليبيا. إنما جرأت روسيا التي شعرت بالإهانة في ليبيا، إيران والآخرين (بما في ذلك النظام الجزائري) على تبيان ميولهم الحقيقية. وهكذا تدرج الدعم الإيراني من المال والسلاح وخبراء الحرس الثوري، إلى الإعلان صراحة عن البعد المذهبي (الأقلوي) للصراع: حماية المزارات الشيعية ومقاتلة التكفيريين! وبذلك فقد انتهت كل دعاوى المقاومة والممانعة، وقالت إيران إنها بصدد حماية الشيعة والأقليات الأخرى (ومنها العلويون) من فتك السنة بهم وتكفيرهم لهم. وهنا نصل إلى الاختلال الديني بعد الاختلال القومي والوطني.
إن فئات معتبرة من شبان السنة والشيعة هم في حالة ثوران منذ ثلاثة عقود ونيف. وقد استولت إيران على الثوران الشيعي من طريق الإنفاق الكثيف، والاستنفار الكثيف، ثم الاستخدام الكثيف لصالح الدولة القومية الإيرانية في مواجهة «العرب السنة». والطريف أنه بدلا من الحديث دوليا عن إرهاب الدولة الإيرانية على مدى أكثر من عقدين، وفي ديار العرب، وبعض ديار العالم، نجد أن أوباما يعتقد فجأة أن كل المشكلات مع إيران منذ أكثر من 30 عاما يمكن أن تجد حلا خلال أشهر!
على أي حال، ليست العلاقات الأميركية – الإيرانية هي الموضوع هنا. بل الموضوع الثاني بعد الاختلال الوطني والقومي عند العرب، هو الاختلال الديني. فهناك انشقاق عميق في قلب الإسلام السني وهو ذو شقين: الشق الجهادي وهو الأخطر ظاهرا، وهو الذي اصطدم بالولايات المتحدة وسائر الأنظمة العربية من قبل، وهو يركز الآن (أكثر مما ركز بالعراق في عامي 2005 و2006) على العداء للشيعة في سائر الأنحاء وأبرز المواطن سوريا والعراق. أما الشق الآخر فهو الشق الحزبي أو التنظيمي وهو يتمثل في تنظيمات الإخوان المسلمين التي اصطدمت بالأنظمة العربية، لكنها لم تمارس عنفا على شاكلة الجهاديين. بيد أنها كانت الأكثر تأثيرا في تحويل المفاهيم الدينية وإنتاج الإسلام السياسي الأصولي حتى الشيعي منه على مدى 40 عاما وأكثر. فقد اصطنع الإسلام الحزبي والمسيس هذا مقولة الدولة الإسلامية، وليس بمعنى البلاد التي فيها أكثرية إسلامية، بل إنه النظام السياسي الذي يكتسب شرعيته من طريق تطبيق الشريعة. هناك إسلام جديد فرض نفسه على الأخلاد والمجتمعات، وهو غريب جدا عن التقاليد العريقة للعرب والمسلمين في العيش والتصرف. ولا شك أن الجوانب الشعائرية والرمزية منه لها علاقة برد الفعل على الحداثة والعولمة. بيد أن الجوانب العقائدية/ السياسية صعبة التعليل وتتطلب التأمل العميق لأنها استطاعت إنتاج نظرية لدولة دينية في الإسلام، بحيث صار دين الأمة في نظر كثيرين لا يكتمل إلا بهذه الدولة!
إن خلاصة الأمر أن العرب يعانون من ضعف في الوعي القومي والوطني الذاتي وبخاصة ضمن الفئات الشابة، كما يعانون من اختلال في الموازين الدينية، بحيث صارت القومية وصار الدين يستخدمان ضدهم (!) وهذا غريب جدا لأن العرب من أقدم الأمم التي أنجزت وعيا تكامليا بين الذاتي والثقافي والديني.
ما أسهمت الثورات العربية حتى الآن في تجديد الوعي الوطني والقومي، ولا أسهمت في ضبط الثوران الديني. ولا شك أن التصرفات الدولية والإيرانية كانت ولا تزال بين عوامل الاستنزاف وإحباط الوعي المستنير في الشأنين القومي والديني. لكن هذه الأصوليات والانشقاقات المتصارعة بالداخل الفردي والمجتمعي العربي تتجاوز أفاعيل الدوليين والإيرانيين إلى تشكك عميق بالقدرات، والعجز عن اجتراح المبادرات والخيارات الأخرى. وهذه ظاهرة خطرة يكون علينا جميعا الانشغال بها.
المصدر: الشرق الأوسط