عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
رأيت وسط تأزمات الثوران الإسلامي، والصراع بين الجماعات الدينية والدولة، وسوء منظر ومشهد الإسلام في العالم، أنه لا بد لصون الدين في أزمنة التغيير (وهو العنوان الفرعي لكتابي الصادر أخيرا) من ثلاثة أمور؛ الأول: القيام بنهوض فكري وديني تجري من خلاله عمليات نقد تحويلات المفاهيم، والإصلاح الديني. والثاني: إعادة بناء المؤسسات الدينية لتمكينها من القيام بالوظائف والمهام التي كانت لها والتي لم تستطع القيام بها في المرحلة الماضية. والثالث: الانخراط من جانب المثقفين في عمليات إقامة أنظمة الحكم الصالح أو الرشيد في البلدان العربية التي سادت فيها وتسود الديكتاتوريات العسكرية والأمنية المهولة.
وصحيح أن بعض الذين ردوا عليّ جادلوا بشأن الأنظمة الاستبدادية، وهل هي أفضل أم التيارات المتشددة التي تتصارع معها (!)، بيد أن الاعتراضات الحقيقية، ومن جانب الإصلاحيين والتنويريين على حد سواء، كانت على اتجاهات عمليات النقد المفهومي من جهة، والدعوة لتقوية المؤسسات الدينية التي نال منها الضعف، وضاعت وظائفها ومهامها بين الأنظمة الاستبدادية والثوران الإسلامي. ففي مجال النقد المفهومي أو نقد عمليات تحويل المفاهيم، لاحظت أن «التقليد» السني صار ملعونا باعتباره أرثوذكسية رجعية مملوءة بالانسدادات، وانحطاطات الألف عام! وقلت إن هذا التصور أو هذه التصورات التي نشرتها التيارات الإصلاحية والسلفية والتنويرية، وطرب لها المستشرقون ودعاة صراع الحضارات، تمثل نزوعا غير تاريخي، ولا يفهم الإسلام والمسلمين. فصحيح أن «التقليد» السني والشيعي عانيا مشكلات قوية من داخلهما وفي مواجهة حضارة العصر وعصر العالم منذ القرن التاسع عشر؛ لكن الحملات عليهما من كل حدب وصوب، أدت – خلال قرن وأكثر – إلى تحطم «التقليد» وحلول الأصوليات محله، لدى السنة والشيعة. فلدى السنة، ظهر الجهاديون وظهرت الأحزاب الدينية الداعية لإقامة الدولة الإسلامية، ولدى الشيعة انتهى عمليا تقليد أو اعتقاد الإمام الغائب، وحضر الإمام، وجاءت ولاية الفقيه التي استولت بالمذهب على الدولة وإدارة الشأن العام. إنما هل كان ظهور «الأصوليات» دليلا على صحة أو سلامة التقليد الديني؟ المسألة هنا ليست في الصحة أو البطلان، بل في المفاهيم التي سادت عن التقليد، والتي اتخذت منذ الستينات من القرن الماضي من قطائع باشلار وفوكو ومقولات الفوات والتفويت مسوغا لذلك. كان الإصلاحيون والسلفيون قد أخذوا على التقليد إغلاقه باب الاجتهاد، وقصْره على ما آلت إليه المذاهب الفقهية الأربعة. وقد انفتح تقليد المذاهب الفقهية لدى السنة والشيعة داخل المؤسسات وخارجها بعد لأْي. لكن الأمر ما لبث أن اتخذ طابعا مبدئيا لدى المتدينين من الإصلاحيين والسلفيين على حد سواء. فقد أراد الطرفان العودة إلى ما قبل التقليد إذا صح التعبير، وإنْ لأغراض مختلفة أو متباينة. أراد الإصلاحيون العودة للكتاب والسنة للإفادة من قيمهما وعمومياتهما (الخالية من أعباء التاريخ فيما يظنون) في تسويغ الاتجاه للاستمداد من قيم التقدم الأوروبي. وقد توسلوا لذلك بإحياء الاستدلال بمقاصد الشريعة، التي تقول (بحسب تطوير الفقهاء لها بالاستقراء من القرآن والسنة) بالضروريات أو المصالح الخمس: حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسْل، وحق الملْك. ويعني هذا أنه من حق المسلمين إيجاد المؤسسات التي لم يعرفها تاريخهم الديني والدولتي لحفظ وصون هذه الحقوق لإنسانهم واجتماعهم البشري كما صار متعارفا عليه في عالم اليوم. أما السلفيون، فأرادوا جرف التقليد كله باعتباره بدعا وانحرافات، لفتح باب الاجتهاد بالاستمداد من الكتاب والسنة مباشرة. ووسط التحديات الكبرى التي سادت في حقبة ما بين الحربين، أو حقبة نشوء الدولة الوطنية، ثم ظهور الأنظمة العسكرية والأمنية فيها، انحازت فئات من الجمهور إلى فكر الهوية الساخط على كل شيء غربي، والخائف على دينه من كل شيء. ومن موروثات فكر الهوية هذا دوغما الدولة الإسلامية التي تريد تطبيق الشريعة – أو إلى سلفيات القراءة المباشرة للكتاب والسنة، التي استكانت بضعة عقود، ثم عادت للانفجار في جهاديات منذ السبعينات من القرن الماضي.
ولست أزعم هنا أن التنويريين والعقلانيين النقديين كانوا من تسبب فيما آلت إليه الأوضاع في «التفكير الإسلامي» بشأن الدين والدولة. لكنهم في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وعندما كانت هذه الفصاميات تتعملق، كانوا هم ينصرفون إلى نقض الموروث أو التقليد أو التجربة التاريخية للأمة في الدين والاجتماع والثقافة (وما يزالون على ذلك إلى اليوم)، فأسهموا عمليا في نصرة الأنظمة العسكرية، كما أسهموا في تسليم أعناق الجمهور إلى «الإخوان». إن الأصوليات هي انشقاقات حاصلة في الدين الذي حطم الأصوليون هؤلاء مواريثه وتقاليده وأعرافه في فقه العيش، وفي الانسجام بين الدين والدولة. ونقد التحويلات في المفاهيم من جانب نهضويين دينيين ومدنيين (سواء أكانوا مع الدين أو ضده)، يسهم في صنع تصور آخر لإمكانيات استمرارية تاريخية منفتحة، تمكن من الصيرورة إلى مستقبل آخر، وليس العودة إلى ماض أو تقليد لن يعود. لا بد من الانتهاء من دوغمائيات شرور التقليد والأرثوذكسية؛ فقد انتهيا، وأنتم أيها الإصلاحيون والعقلانيون الأشاوس لا تواجهون التقليد، بل الأصوليات التي قامت على أنقاضه!
لقد ارتاع المثقفون من دعوتي لتقوية المؤسسات الدينية (التقليدية). ومؤسساتنا الدينية – نحن أهل السنة – ما كانت طبقة كهنوتية، ولا تستطيع أن تكون. وكانت الدول مسيطرة عليها. وقد انفجر الدين بأيدي الدول والمؤسسات التي كانت الدول تستخدمها. إنما من الذي يقوم في الزمن الجديد، زمن ما بعد العسكريات والأصوليات بالمهام الدينية التي يحتاجها جمهور المتدينين؟ من مثل التعليم الديني والفتوى وقيادة العبادات والإرشاد العام؟ لا بد من إعادة بناء المؤسسات لكي تقوم بهذه المهام التي تشرذمت في أزمنة الفصاميات، أو وقعت بأيدي الأصوليين ودعاة الفضائيات الطائفية والمتشددة. ولن تكون المؤسسات بمعزل عن رقابة السلطات لصون الاستقرار، وصون الحريات الدينية في العبادة والتعليم في الوقت نفسه، لكنها لن تكون تابعة لها، لأن تجربة الدولة الوطنية مع الملف الديني ما كانت تجربة ناجحة!
إن الذين يقيمون تفاضلا اليوم بين «داعش» والأسد، فضلا عن خورهم وخطلهم الأخلاقي والإنساني، ينسون أن الأسد ووالده وأبناء عمه وأقاربه مثل صدام والقذافي والنميري والبشير والعسكريين الجزائريين، كانوا بين أهم أسباب فشل تجربة الدولة الوطنية من جهة، وثوران الأصوليات من جهة ثانية. ولذا، لا بد من أنظمة للحكم الصالح والرشيد، تنهي معاناة الناس من المذابح والإبادات، وتنهي وحشية الانتحاريات التي خرجت على هؤلاء في الأصل! وتمكن بالفعل من القيام بإصلاح ديني يريده التنويريون بإلحاح!
إن لدينا – أيها السادة – اليوم ملفين اثنين: ملف تاريخ التجربة مع الدين في الأزمنة الوسيطة والمعاصرة، وملف سياسات الدين، وهما ملفان مختلفان بالطبع، لكن بينهما وشائج قوية. فالتاريخ وقائع وتجربة واتجاه، ولا تصنعه الرغبات التصورية، مهما بلغ من سموقها ومبدئيتها: «والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
المصدر: الشرق الأوسط