صنعاء: أسماء الغابري
شهدت العاصمة اليمنية «صنعاء» التي تعرف بـ«مدينة الجوامع»، حيث تحتضن أكثر من 60 جامعا تاريخيا يعود تاريخ بنائها إلى القرن الأول الهجري؛ أكبر عملية ترميم للجامع الكبير الذي يعد ثالث مسجد بني في الإسلام بعد مسجد قباء والمسجد النبوي في المدينة المنورة. وكشفت عمليات الترميم عن وجود أول مصحف مكتوب باللغة الحجازية.
ووفقا لوزير الأوقاف والإرشاد اليمني، حمود عباد، الذي أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن عملية الترميم التي خضع لها الجامع الكبير كشفت عن وجود مصحف نادر يعود تاريخه إلى القرن الهجري الأول مكتوب بالخط الحجازي، مبينا أن هذا الاكتشاف سيعطي دروسا جديدة في مجال علوم الكتابة واللغات، في أن الحرف العربي هو حرف أصلي يعود إلى ذاته ومتأثر بوجوده، بعد أن كانت القاعدة الكوفية المتأثرة بالقاعدة اللاتينية هي السائدة في وضع الحرف لكتابة القرآن الكريم.
وأكد أن الجامع الكبير في صنعاء يخضع لأكبر عملية ترميم في تاريخه تتم وفق معايير تاريخية عالية الدقة ومعتمدة على أعلى الخبرات الدولية في هذا المجال، مشيرا إلى أن وزارة الأوقاف والإرشاد وصندوق التنمية شركاء في هذه العملية الترميمية من خلال الاستعانة بعدد من المنظمات الدولية بما فيها «اليونسكو» التي تعاونت مع خبراء في علم الآثار وعلم الحفريات والنقوش.
وبين أن عمليات الترميم بدأت بمعدات وأدوات دقيقة مثل الأشعة السينية، والتي كشفت عن وجود فراغات خلف جدران المسجد، وبعد عمليات حفر دقيقة تم استخراج مجموعة كبيرة جدا من المخطوطات الأثرية، إضافة إلى مجموعة من المكونات التاريخية؛ كالأصداح والرقائق والنقوش الخشبية والنقوش الحميرية التي كانت موجودة في قصر غمدان التاريخي الذي بني بعض من أجزاء الجامع الكبير على أنقاضه، إضافة إلى اكتشاف مصحف نادر يعود تاريخه إلى القرن الهجري الأول مكتوب بالخط الحجازي.
ولفت عباد إلى أن القاعدة المعروفة في وضع الحرف في كتابة القرآن الكريم لدى خبراء الخطوط الدوليين وبعض المستشرقين، هي القاعدة الكوفية المتأثرة بالقاعدة اللاتينية، وأن اكتشاف هذا المصحف سيعطي دروسا جديدة في مجال علوم الكتابة واللغات في أن الحرف العربي هو حرف أصلي يعود إلى ذاته متأثرا بوجوده، بدليل أن هذا المصحف الذي تم اكتشافه في القرن الأول الهجري بالخط الحجازي كان قبل الاحتكاك بالحضارات الأخرى، خصوصا بحركة الترجمة التي لامست الخطوط والأحرف اللاتينية وغيرها، وهو ما ينقض القاعدة الاستشرافية التي وضعت مثل هذا المنطوق التاريخي.
وعن الأماكن التي سيتم فيها حفظ هذا المصحف والرقائق والآثار الأخرى، بين حمود عباد أن صنعاء توجد فيها مكتبة تاريخية للجامع الكبير، إضافة إلى دار المخطوطات بجوار الجامع والتي يوجد فيها عشرات الألوف من المخطوطات التاريخية النفيسة في مختلف مجالات العلوم الإنسانية في القرآن الكريم وعلوم التفاسير واللغة والفكر وعلم الأيساغوجي والمنطق والطب ومختلف علوم المعرفة الإنسانية، وأن الآثار التي تم استخراجها من الجامع الكبير سيتم نقلها إلى هناك.
وأكد أن المخطوطات الموجودة في اليمن من أنفس المخطوطات الموجودة في العالم، مستشهدا على ذلك باحتواء الجامع الكبير على مصحف بخط الإمام علي بن أبي طالب، والذي يعد من أندر المصاحف، وأن هذا المصحف كتب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتبر أول مصحف كتب في التاريخ الإسلامي، واطلع عليه عدد من الخبراء، وأجريت كثير من الدراسات عليه، إضافة إلى وجود النسخة الوحيدة الأصلية التي لا يوجد لها نظير في العالم من كتاب القاضي عبد الجبار المعتزلي، الذي يعكس ثقافة المعتزلة، وتوجد منه صورة لكنها غير أصلية في مكتبة إسطنبول.
وأوضح أن الجامع الكبير من الجوامع التاريخية النادرة، فهو ثالث جامع بني في الإسلام بأمر من الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأنه احتراما لقيمته التاريخية والدينية القيمة قامت لأجله أكبر عملية ترميمية، تم الانتهاء من جزء منه وافتتاحه، مبينا أن هذا الجزء وهو عبارة عن أجنحة تم افتتاحه في بداية شهر رمضان من العام الحالي، وكانت الأسقف خشبية.
وبين عباد أن هذه الأسقف الخشبية صنعت منذ ألف ومائة عام، وكانت آخر عملية ترميم لها في عهد النحويين، وبقيت على حالها حتى طمست معالمها ونقوشاتها تاريخيا، وأن الخبراء استخدموا كل الوسائل الدقيقة في عملية الترميم والتي كان منها «الإبرة» للحفاظ على هويتها، إضافة إلى دراسة المكونات الكيميائية في تحليل ألوان النقوش، والتي بينت أنها ألوان نباتية صرفة تم إعدادها من قبل الخبراء بطريقة معملية احترافية دقيقة.
ولفت إلى أن عملية الترميم التي بدأت منذ فترة ليست ببعيدة تم إيقافها في شهر رمضان الكريم، نظرا لتوافد أعداد كبيرة في هذا الشهر الكريم من أجل أداء الصلوات، خصوصا صلاة التراويح والتهجد، إلا أنه ومع بداية أيام عيد الفطر المبارك تم استكمالها.
وأوضح أنه تم تدريب مجموعة من الشباب اليمني على الحفريات والنقوش في إيطاليا، وعقدت مجموعة من ورشات العمل والدورات التدريبية والتأهيلية في صنعاء بخبرات دولية، إضافة إلى وجود خبرات من الشباب والشابات نظراء للخبراء الدوليين في هذا المجال، من أجل تقديم الجامع الكبير في صنعاء تحفة إسلامية نادرة محافظة على شكلها وبنائها المعماري وعلى مكونها التاريخي منذ أن بنيت في عهد الرسول الكريم.
وشدد على أن وزارة الأوقاف حرصت على أن يظل المكون التاريخي كما هو، وهو ما أبلغت به المختصين الذين يعملون على ترميم هذا الجامع، كي يستدل به العالم أجمع على عظمة العصور والعقلية الإسلامية الإبداعية الرائعة التي أسست مثل هذه المآثر العظيمة.
ورأى أنه ورغم إمكانية بناء مساجد ومعالم تاريخية ضخمة وجميلة ورائعة في العصر الحديث، إلا أنها لا يمكن أن تحمل في عمقها ودلالتها وجمالها البعد التاريخي الذي ينبغي أن يستعيده المسلمون في ذاكرتهم الوطنية اليوم، من خلال كونها شخصا قائما بذاته مثل ما هو الحال في الجامع الكبير في صنعاء. وقدر عدد الجوامع في صنعاء بأكثر من 60 جامعا تاريخيا يعود تاريخها إلى القرن الأول الميلادي، مثل جامع الإمام علي بن أبي طالب الذي بناه الإمام علي عندما زار اليمن، وجامع الشهيدين، وجامع فروة بن مسيك، إضافة إلى مجموعة من الجوامع التي بنيت في القرن الأول الهجري، وهي بلا شك تقدم شواهد تاريخية على عظمة الإنجاز في هذا المجال.
من جهته، بين لـ«الشرق الأوسط» سليم مثني، الخبير السياحي، أن الجامع الكبير من أقدم المساجد الإسلامية، ويعتبر من المساجد العتيقة التي بنيت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن المصادر التاريخية أجمعت على أنه بني في السنة السادسة للهجرة، حين بعث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل وبر بن يحنس الأنصاري واليا على صنعاء، وأمره ببناء المسجد ما بين صخرة الململمة والأكمة، وأن يجعل قبلته جبل ضيم.
وأوضح أن السقوف المصندقة ذات الزركشات الفنية المرسومة بطريقة الحفر الملونة فريدة في العالم الإسلامي، ويحدد تاريخ السقف المصندق للرواق الشرقي بالقرن الثالث الهجري استنادا إلى طرازه، بينما يعود تاريخ سقوف الرواق الغربي وبعض أجزائه إلى العصر الأموي أو إلى أوائل العصر العباسي، وأن للجامع مئذنتين؛ في الناحية الجنوبية واحدة، والثانية في الناحية الغربية منه، تعتبران من أقدم المآذن الباقية في اليمن.
وأوضح أن الجامع تعرض خلال العصور الإسلامية المتتابعة لتجديدات وتوسيعات كثيرة، وكان من أوائلها عملية التوسعة التي قام بها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، ثم توسعة أخرى في فترة أول ولاة بني العباس في صنعاء الأمير عمر بن عبد المجيد بن الخطاب، تليها توسعة أخرى على يد الأمير علي بن الربيع بأمر من الخليفة المهدي العباسي، وكانت آخر عملية توسعة للجامع الكبير على يد الأمير محمد بن يعفر الحميري التي بنيت أثناءها السقوف الخشبية المصنوعة من خشب «الساج»، خصوصا في عمارة الرواق الشرقي الذي يتكون من مصندقات خشبية غاية في الدقة والإبداع، إلا أن بعض المؤرخين اليمنيين ينسبون عمارة الرواق الشرقي في الجامع إلى الملكة أروى بنت أحمد الصليحي، ويعود تجديد المئذنتين الحاليتين إلى عام 603هـ – 1206م، حيث قام بتجديدهما ورد بن سامي بعد أن تهدمتا وسقطتا.
وبين أن الوالي العثماني سنان باشا قام في عام 1018 هجريا ببناء القبة الكائنة في الفناء والتي تسمى «قبة الزيت»، والتي تتكون من طابقين؛ الأعلى مخزن لمصاحف القرآن الكريم، والأسفل زيوت لإنارة الجامع ليلا.
المصدر: الشرق الأوسط