عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
قال الرئيس الأميركي في خطابه في الأمم المتحدة، قبل ثلاثة أشهر: إن عمل إدارته خلال الشهور المقبلة سينصبُّ على إنجاز أمرين اثنين: معالجة الملف النووي الإيراني، والتوصل إلى بدايات حل فلسطيني. وما اعتبر أحد هذا التصريح جدياً؛ حتى من المراقبين الإسرائيليين والأميركيين. فقد فشل أوباما في فترة رئاسته الأولى في التقدم خطوةً واحدةً على طريق الحل الإسرائيلي الفلسطيني. وفي الجانب الإيراني، ما كانت المتغيرات واضحة الآثار بعد، بحيث كان هناك من نعى المناشدات الأوبامية أيضاً لإيران طوال عدة سنوات! وفيما يبدو الآن كأنما أوباما حقّق إنجازاً كبيراً مع إيران، فإن المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية دخلت شهرها السابع دون أن تحقّق شيئاً، وإنما يكمن «التفاؤل» في استمرارها وحسْب!
إنما هناك الآن «مستجدات» في الملفين: في الملف النووي الإيراني هناك مفاوضات تقنية دقيقة للدخول إلى تنفيذ الاتفاق المؤقت بستة أَشْهُر، ولا يبدو أن هناك عقبات حتى الآن من الجانبين. وفي الملف الفلسطيني الإسرائيلي تتكاثر الأخبار بشأن إقدام وزير الخارجية الأميركية قريباً (متى؟) على عرض «اتفاق إطار» على الطرفين. وإنما قبل الدخول في مناقشة مدى جدية هذه المسألة وإمكانياتها الحاضرة والمستقبلية؛ لننظر أولا في مقولة أوباما حول الارتباط بين تراجُع خطر الملف النووي الإيراني، وتصاعد إمكانيات الحل الإسرائيلي الفلسطيني.
يبدو الربط بين النووي الإيراني، والحل الفلسطيني الإسرائيلي عملا من أجل أمن إسرائيل. فقد كانت إسرائيل منذ عام 2003 تعتبر البرنامج النووي الإيراني خَطراً وجودياً عليها. وكانت تُهدد بالويل والثبور إن لم تتصرف الولايات المتحدة، وأنها قادرة على مهاجمة إيران وحدها إن اقتضى الأمر. ولذا فإن الاتفاق على النووي الإيراني يزيل الخطر على الدولة العبرية لهذه الناحية، كما أنه يحول على أي حال دون نشوب حرب بالمنطقة: ثنائية بين إسرائيل وإيران، أو دولية بين الأطلسي وإيران مثلا! وهذا الأمر ما دام قد تمَّ فإن إسرائيل صارت آمنةً أكثر، ولا أخطار تهددها من إيران، كما لا أخطار تهددها من الجوار العربي المليء بالحروب، والمُلتهي بنفسه ومشكلاته. لذلك فهي فرصة نادرة لإنهاء المأزق، وتحقيق الأمن الاستراتيجي للدولة العبرية، وهي في ذروة قوتها وأمنها!
بيد أن نتنياهو وحكومته اليمينية والتي يقال إنها حكومة مستوطنين، لا تملك هذه النظرة على الإطلاق. فهي غير راضية أولا عن الاتفاق وتعتبره غير كاف للاطمئنان وتحقيق الأمن. ثم إنه حتى في حالة الاقتناع الضمني بوجهة النظر الأميركية هذه؛ فإن ذلك لا يدفع اليمين الإسرائيلي نحو السلام(!) فكما قال روجر كوهن (المعلِّق الأميركي اليهودي وخصم نتنياهو): هم يريدون الأرض ولا شيء غير، ولا يهمهم ما يحدث لملايين الفلسطينيين. وما دام التهديد العسكري والأمني ليس قوياً الآن، فإنّ هذا أدعى لديهم لإبعاد «أوهام» السلام، لأنهم يريدون أخذ كل شيء! وبالطبع فإنهم لا يصرحون بذلك، بل يمضون في بناء المستوطنات على أراضي الضفة الغربية والقدس، ويطرحون مطالب تعجيزية في المفاوضات مثل الاعتراف بإسرائيل دولةً لليهود (وحدهم)، وبضم القدس إليها، ويظل الجنود الإسرائيليون على الحدود مع الأردن، ولا يردُّون شيئاً من الأراضي التي استولوا عليها. وإذا بدا أن هذه المطالب غير معقولة، وستؤدي إلى انسحاب الطرف الفلسطيني من التفاوض، فإن الأميركي يسارع لإقناع نتنياهو بالتنازل جزئياً، فلا يتنازل، بل يسكت عن بعض الأمور التي يقترحها الأميركيون مثل وجود جنود أميركيين في غور الأردن باعتبار أن إسرائيل تكون آمنةً معهم كأنما هم جنود إسرائيليون. أو يعمد الأميركي إلى القول بتأجيل هذا الأمر أو ذاك، مثل استبدال الأراضي ومقاديره، ومثل متى يتوقف بناء المستوطنات، ومثل يهودية الدولة باعتبار أن ذلك يعني إسقاط حق اللاجئين في العودة أو التعويض، خلافاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948.
إن ميزة «الاتفاق- الإطار» أنه يسمح بإثبات وجهة نظر كل طرف وتحفظاته. كما أنه لا يشترط تأجيل التنفيذ لحين الاتفاق على كل شيء. فمثلا يقول الاتفاق: إن الهدف من التفاوض الوصول إلى حل سلمي يمكّن من إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين في حدود 1967، ويكون على هذه الدولة أن تحيا بسلام مع جوارها الإسرائيلي، بمقتضى اتفاق شامل ودقيق، ترعاه الأسرة الدولية بالكامل وتضمن تنفيذه لمصلحة الشعبين، وسلام المنطقة وأمنها وسلام العالم. ويبلُغُ من حُلُم بعض اليساريين وبعض أنصار اللاعنف بينهم (وهم قلةٌ قليلة) أن يعتبروا اتفاق السلام هذا بمثابة «الحلّ النهائي» للمأساة اليهودية المستمرة منذ ألفي عام ونيف. إذ بمقتضاه يكون العالم الذي قبل اليهود تماماً بعد الحرب الثانية ومذابحها، قد استطاع الحصول من الفلسطينيين والمؤثرين بالجوار على اعتراف شبه مُماثل للقبول العالمي، رغم المظالم الهائلة التي نزلت بالفلسطينيين والعرب الآخرين في مناطق الاحتلال الإسرائيلي. ولذلك لا يكاد ليبراليو اليهود في أميركا يصدقون أنّ نتنياهو ورفاقه يتجاهلون هذه الفرصة أو لا يعتبرونها شيئاً مهماً!
إنما لنعُدْ إلى الاتفاق الأول حول النووي. لقد كانت إيران تبتزُّ بالنووي الأميركيين والأوروبيين وإسرائيل. ويبدو الآن أنها تتنازل عن استخدام هذه المسألة في الابتزاز؛ إنما في مقابل ماذا؟ هناك من يقول: ليس هناك مقابل غير فكّ الحصار، وعودة إيران عضواً طبيعياً في المجتمع الدولي. لكن هناك من يقول أيضاً: وإذا أظهرت إيران تعاوُناً، فيمكن العمل معها باعتبارها قوةً إقليمية. ويقول المعجبون بإيران: إنها قوة إقليمية بالفعل؛ فهي تنشر مسلحيها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان، وتستمرّ في تهديد العرب وإسرائيل على حد سواء. وما سمعْنا لأحد منكم استنكاراً لحضور مليشياتها وحرسها الثوري في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة بشكل ظاهر. ويقول دعاة السلام والنظام الجديد: إن إسرائيل مضطرة، عاجلا أو آجلا، للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في فلسطين وغيرها، فكذلك يكون على إيران إيقاف تدخلاتها الأمنية والعسكرية في العالم العربي وفي أفغانستان ومناطق أُخرى كثيرة. وبالطبع لن يكون ذلك إلا من خلال التفاوض على منظومة جديدة للأمن الإقليمي يشارك فيها الجميع، بمن فيهم العرب والإيرانيون والإسرائيليون والأتراك. فكما أن الاحتلال والجيش القوي والنوويات، كل ذلك لم يؤمِّن لإسرائيل السيطرة وإلغاء الفلسطينيين؛ فكذلك لن يؤمِّن الأسد والمالكي وحزب الله والميليشيات والقتل المستمر لإيران مستقراً ونفوذاً في البلاد العربية. لابد أن يعود الطرفان الإسرائيلي والإيراني إلى حجمهما الطبيعي، رغم النووي الإسرائيلي، ورغم الحرس الثوري الإيراني! هل يكون ذلك كله كلاماً بكلام؟ المطلوب الصبر والانتظار، فقد يكون بعض ذلك صحيحاً! لكن كيف وإلى متى يصبر أطفال فلسطين وسوريا وليبيا واليمن على الموت والجوع؟!
المصدر: الاتحاد