عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
ما توقّع أحدٌ فوز دونالد ترامب حتى ترامب نفسه، كما تقول إحدى المعلِّقات في الـCNN! لكنه رغم ذلك فاز وبفارقٍ بارز. ويتحدث المراقبون الذين يحاولون الفهم، وإن متأخرين، إنّ هناك عاملين رئيسين لنجاحه: تصويت الريفيين له وأهل البلدات الصغيرة والمتوسطة، والعامل الثاني تصويت البيض المنخفضي التعليم الذين نالت منهم أزمة ومتغيرات أسواق الأعمال نتيجة الثورات التكنولوجية المتلاحقة. ومع أنّ هذا التعليم بشقيه غير مقنع، لأنّ الطبقة الوسطى الحضرية الأميركية هائلة الحجم، فإنّ المفارقة تبقى أنّ ترامب ليس من العمال ولا من المناضلين من أجل حقوقهم، بل هو من طبقة كبار رجال الأعمال. وما عُرف عنه اهتمامٌ بقضايا الفقر والتهميش مثل ساندرز مثلاً الذي كان خصماً لكلنتون واجتلب إليه شباناً وشابات من محبي التغيير! إنّ المعروف عن الرجل الفائز فضلاً عن قصصه النسائية، تهربه من الضرائب، وكثرة دعاواه على الذين ينفذون مشاريعه، وعلى زملائه من رجال الأعمال، واحتقاره العامة والفقراء.
إنما بدلاً من الانهماك في ذكر مساوئه، التي درج الجميع، بمن فيهم أقطاب الحزب «الجمهوري»، على التشهير بها، والحيرة إزاء شعبيته بين جماهير الحزب والعامة، فلنتجه إلى فهم الظاهرة، وتأثيراتها في الغربين الأميركي والأوروبي، ثم في المشرق والعرب.
«جمهور جديد»
هناك جمهورٌ جديدٌ من سائر الأعمار، وفي أميركا وأوروبا، ثائرٌ على تقاليد المؤسسة الحاكمة. ولثورانه أسباب أهمُّها الانضباط الشديد المفترض بحسب القوانين، والفساد المستشري في الوقت نفسه. ثم الأوضاع الاقتصادية وأوضاع أسواق الأعمال. وأخيراً هموم الهوية الخاصة والمتميزة، أي الهوية البيضاء مع تكاثر الأقليات الإثنية والدينية وسط تلك المجتمعات. إنّ السياسات الوسطية سواء في الاقتصاد وفي العمل السياسي الداخلي، ما عادت تُرضي الشرائح الجديدة، وقسماً كبيراً من القديمة. كبار السن من النساء بخاصة، يعتبرون هذه «التقاليد» للسياسة في التوازن بين الكونجرس بمجلسيه، والرئاسة، وحكام الولايات، ما عادت مقبولة ولا هي التقاليد الأصيلة للآباء المؤسسيين بعد أن أكلتها البيروقراطية، وأكلها الفساد. وقد سبق للولايات المتحدة أن شهدت ثلاث حركات منذ الستينات: حراك الحقوق المدنية، وهو حراك السود الذين تضامن معهم الليبراليون، وخصوم حرب فيتنام، وحراك الإنجيليين الجدد، الذين يريدون العودة إلى أخلاقيات الدين بدلاً من البزنس ومن النزعة الإمبراطورية، وأخيراً حراك المحافظين الجدد، وهم الذين عملوا في الدوائر العليا والوسطى منذ أيام ريغان وإلى أيام جورج بوش الابن. وأظن أن بقاياهم ستعمل في إدارة الرئيس الجديد. وهؤلاء يقولون بالديمقراطية الشعبوية (مع أنهم من النخب) بالداخل، وبأميركا القوية الفاتحة في الخارج. وشعبويات ترامب تعكس (إضافةً إلى مخاوف أسواق العمل الجديدة)، هذا القلق على الهوية البيضاء، والشعور بالعجز أمام هجمة العولمة، والأقليات العرقية والدينية من عوالمها ومعالمها. ترامب قال لهؤلاء كل يوم إنه يريد إعادة أميركا القوية، وبدون أقليات، وبدون مكسيكيين، وبدون مسلمين. وهذه أمورٌ لا تستطيعها المؤسسة القائمة، المنهمكة بإنصاف الأقليات، واستقبال المهجَّرين، وغضّ النظر عن ملايين من الداخلين إلى الولايات المتحدة من المكسيك وغيرها بطرائق غير مشروعة.
ماذا يستطيع ترامب أن يفعل لإنفاذ برنامجه؟ لا يمكن تسمية خواطر ترامب وخطراته برنامجاً إلاّ إذا اعتبرنا أنه من معالم هذا البرنامج بناء سور بين الولايات المتحدة والمكسيك، ومنع المسلمين من الدخول إلى أميركا! ومع ذلك، علينا ألا ننسى أنّ الكونجرس بمجلسيه لا يزال بيد «الجمهوريين»، ولذلك يستطيع الرئيس الجديد بالفعل تشديد قوانين الهجرة، إنما لا نعرف إنْ كان بإمكانه إسقاط الاتفاق (نافتا) مع المكسيك ودول الجوار الأُخرى. ثم هل يكون بإمكانه بالفعل إسقاط قانون الرعاية الصحية، وحرمان 50 مليون أميركي من الضمان الصحي من جديد؟!
ثم لنذهب باتجاه أوروبا. اليمين الجديد صاعدٌ في أوروبا أيضاً. وسيُسرُّ هؤلاء الجدد بنجاح ترامب. لكنّ الرئيس الجديد يزعم التخلّي عن الأطلسي، ويريد من الأوروبيين إن أرادوا الحماية، أن يدفعوا الثمن. ثم إنه لا يرى ضرورةً للحماية من روسيا، التي يريد التخلّي لها من جديد عن شرق أوروبا! وكما يشير نجاح ترامب إلى اشتعال حرب الهويات بداخل المجتمع الأميركي، فإنّ حرباً مشابهة تنشب في أوروبا، وهي التي أدت إلى التصويت ببريطانيا (العظمى) على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهناك الآن ميول في هنغاريا وألمانيا (لدى الساسة) وصربيا وغيرها لمسالمة روسيا لأسباب تجارية وسياسية، فإذا تساهل ترامب مع روسيا، فلا شكّ أنّ الاضطراب سيشيع بين أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق والبوسنة والهرسك وكوسوفو. وهكذا فإنّ أصعب الأوضاع ستكون من نصيب أوروبا إذا تغيَّر الدور الأميركي أو تعدَّل. ولأنّ اليمن الأوروبي صاعد، وهناك انتخابات قريبة في ألمانيا وفرنسا قد تزيد من حظوظ اليمين، فإنّ التهديد سيتعاظم على الاتحاد الأوروبي وبقائه، وبخاصةٍ إذا تخلّت الولايات المتحدة عن النُصرة والحماية المستمرتين منذ الحرب العالمية الثانية.
ثلاث مشكلات أساسية
ولنصل إلى المشرق والعرب بعد طول طواف. يقول الخبراء الاستراتيجيون إنّ أكبر المشكلات الخارجية التي تواجه الرئيس الأميركي الجديد ثلاث: احتلال الصين لجزر في بحر الصين الجنوبي وتهديدها لسائر دول المنطقة، والتمرد الروسي على كل المقاييس وقواعد الاشتباك في أوروبا وغيرها، وتمدد إيران وحروبها في المشرق العربي والخليج واليمن وامتداد التهديد إلى البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي.
في مشكلات وحروب الشرق الأوسط لا نعرف عن سياسات ترامب العظيمة غير أمور قليلة. قال إنه يريد وجود ثلاثين ألف عسكري أميركي في الحدّ الأقصى، لمقاتلة الإرهاب، ولحفظ المصالح الأميركية. ويؤيد خلْق ملاذ آمِن بداخل سوريا حتى لا تستمر موجات المهاجرين في التدفق إلى الغرب. ومن جهة أُخرى يريد نقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس (العاصمة الأبدية للدولة العبرية!). وترامب لا يحب إيران، ولا يؤيد الاتفاق النوويَّ معها. لكنه بالتأكيد لن ينقضه، لأنه بذلك يعرّض أمن إسرائيل للخطر. وبالتأكيد فهو لن يسحب الخمسة آلاف أميركي من العراق. لكنه قد يكون موفقاً أكثر في الوصول إلى اتفاقات مع موسكو بشأن سوريا.
كل هذه أُمورٌ تركّز على ما يحب الرجل وما لا يحب. لكن لأنها خواطر وخطرات كما قلنا، ولا تشكّل برنامجاً، فينبغي الانتظار لشهورٍ قليلة. إذ علينا أن لا ننسى أنّ لدى الرجل مستشارين في السياسة الخارجية يعرفون المنطقة جيداً، وقد رأينا منهم على الشاشات وليد فارس اللبناني الأصل، والذي كان قريباً من المحافظين الجدد. فليس بعيداً أن يستخدم ترامب أو يستعين بآخرين ممن يُسمَّون المحافظين الجدد، وهؤلاء ذوو ميول غير هادئة وغير براغماتية تجاه إيران وتجاه العرب. بينما هم براغماتيون تجاه الصين، وبعضهم فقط براغماتي تجاه روسيا. لكنهم يشاركون ترامب استخفافه بأوروبا. ثم إنّ علينا أن لا ننسى آراء العسكريين الأميركيين الكبار الذين كانوا على تشككٍ شديدٍ في سياسات أوباما الانسحابية. ترامب يحتاج إلى العسكريين، لأنه عديم الخبرة، ولأنه لا يحب الخبراء السياسيين المحترفين الذين يعتبر أنهم من جماعة الـestablishment، ولذا سيكون عليه أن يوازن بين الكونجرس بمجلسيه من جهة، والعسكريين من جهة أُخرى، وبينهما الوزراء والخبراء والموظفون الكبار في إدارته.
وهكذا وبالعودة إلى ما بدأنا به: لديه مع إيران الاتفاق النووي والسياسات في المنطقة. والاتفاق لن يتعرض له، لكنه لن يستطيع الاستمرار في سياسة صمّ الآذان وغض النظر عن تخريب إيران بالمنطقة، فماذا يفعل؟ ما كان عنده في الحملة الانتخابية غير فكرة الثلاثين ألف جندي. إنما هل يظلّ مع حكومة العبادي بعد الموصل، وكيف يسلك تجاه الأكراد في العراق وسوريا؟ والأهمُّ من هذا وذاك: كيف يسلك تجاه تركيا، التي اعتبرها أوباما خصماً طوال السنوات الماضية، واعتبره أردوغان سراً عدواً يريد تقسيم تركيا واصطناع كيانات كردية بداخلها وعلى حدودها! كل هذه التساؤلات تحتاج إلى وقت للإجابة عنها، لكن ما هو موثوق به أنّ الرجل سيخالف سياسات أوباما قليلاً أو كثيراً في الشرق الأوسط، وأنه سيتعاون مع روسيا أكثر مع أنّ أوباما هو الذي أعطى الأولوية في سورية لروسيا.. وإيران!
ونصل إلى دول الخليج. قال ترامب على عادته بعض الملاحظات السلبية تشبه ما قاله عن أوروبا: يريدون الحماية، إذن يكون عليهم أن يدفعوا!، لكنه كما لن يستطيع الخروج والتغيير من دون تفاوضات مع روسيا والصين، فإنه لن يجد مدخلاً آخر للمنطقة بخلاف مدخل أوباما، غير المدخل العربي الخليجي. وبالطبع فإنه لن يكون مهتماً كثيراً بالسلام ومفاوضاته، لكنه لن يستطيع التأسيس لسياسات جديدة من دون موقفٍ من دول الخليج ومن العرب، لأنّ مداخل أوباما من خلال إيران وإسرائيل، والمراوغة تجاه تركيا والعرب، جعلت أميركا مثاراً للسخرية. وربما كانت بين أسباب فشل هيلاري كلنتون، لأنّ الناخبين اعتبروا أن سياساتها الداخلية والخارجية، ستكون استمراراً لسياساته.
منذ العام 2003 قال فريد زكريا الكاتب الأميركي من أصول هندية في كتابه عن الديمقراطية (الاستبدادية) أو الشعبوية: «نحن مقبلون خارج أميركا وأوروبا الغربية في بلدان مثل روسيا والهند على ديمقراطيات شعبوية يفوز فيها أشخاصٌ كارزماتيون بسبب علوّ أصواتهم وخروجهم على المألوف، وليس بسبب ثوراتهم على الفساد، أو اجتراحهم للتغيير في النظام الرأسمالي المسيطر باتجاه العدالة والتوازن!».
لقد صحّت نبوءة فريد زكريا، لكنّ استثناءهُ لأميركا وأوروبا ما كان له معنى، إذ خرجت على توقعاته رئيسة الديمقراطيات الغربية منذ قرنٍ من الزمان. ولينجنا الله مما يحتمل أن يحدث بفرنسا وألمانيا!