عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
اجتمع الإيرانيون بجنيف مع لجنة الـ 5+1 يومي 15 و16 من الشهر الجاري، لمتابعة المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني. وقد سبقت الاجتماع إشارات إيجابية من الطرفين استناداً إلى اللقاءات الثنائية السابقة على الاجتماع في نيويورك وغيرها. وقد صرَّح الطرفان بعد الاجتماع أنه كان جاداً وواعداً وأنهم سيعودون للاجتماع يومي 7 و 8 من الشهر المقبل. وقد تخلَّل الاجتماع لقاءٌ ثُنائي بين كيري وظريف، وبين ظريف ومسؤولة السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي. والمفهوم أنّ كلاً من الطرفين طرح تصوُّرَهُ، وأنّ الروس حاولوا تقريب وجهات النظر. وما شاع من الاجتماع سوى أن الإيرانيين وافقوا على قيام مفتشي وكالة الطاقة الدولية بزيارات مفاجئة للمواقع والمراكز النووية الإيرانية. ورغم إظهار الإيرانيين السرور فقد قالوا إن تصورات الغربيين السابقة واقتراحاتهم صارت قديمة، ولابد من تجديدها وتغييرها بالنظر لمواقف الإيرانيين المتطورة. بينما ذهب الغربيون إلى أن الإيرانيين نافدو الصبر، وكلُّ ما يهمهم هو رفع الحصار، والغربيون لا يمانعون في ذلك إنما بعد أن يزيل الإيرانيون الشكوك في نواياهم من وراء البرنامج النووي، وأنه سلمي حقاً وواقعاً. وهكذا فالذي يبدو أنّ الصعوبات لا تزال موجودة، لكنّ الأمور اتخذت مساراً تفاوضياً خالياً من التهديدات المتبادلة، والدليل على ذلك أنّ موعد الاجتماع المقبل قد تحدد دونما تردُّدٍ وانزعاجات كالسابق. وما أظهر أحدٌ انزعاجه من المسار الجديد للتفاوض غير الإسرائيليين الذين قالوا إنه ليس صحيحاً أنّ الإيرانيين يحتاجون لأكثر من عام لإنتاج القنبلة، كما أنهم حذَّروا من عملية خداعٍ واسعة يمارسُها الإيرانيون، وسيندم الجميع -وبخاصةٍ الأميركيون- على هذه الثقة المفرطة بالرئيس الإيراني الجديد.
ما هو موضوع التفاوض بالتحديد؟ وما تأثيراته على الداخل الإيراني وعلى المنطقة؟ المفهوم أنّ الغربيين يريدون تخفيض نسبة التخصيب ودرجته إلى أقلّ من 20 في المئة، ومعرفة ما تجمَّع نتيجة رفع النسبة من عناصر مواد إنتاج القنبلة، ونقل التخصيب المنخفض إلى الخارج إن أمكن. ويجادل الإيرانيون في الأمور الثلاثة. إنما يمكن أن يوافقوا على خفض نسبة التخصيب، ووضع المنشآت تحت الرقابة الدولية، لكنهم ليسوا مستعدين للإفصاح عمّا تجمَّع، ولا هم على استعداد لإيقاف التخصيب بالداخل ونقله إلى الخارج. وهكذا فالمرحلة الجديدة بالنسبة لهم تفترض تجاوُزَ السابق كُلّه. وهم بالإضافة إلى تعديل موقفهم بشأن التخصيب والرقابة، مستعدون للمرة الأُولى لمناقشة كل المشكلات الثنائية بينهم وبين الأميركيين. وفي مقابل ذلك، وخلال شهورٍ قليلة، يكون على الغربيين -من أجل بناء إجراءات الثقة- رفع الحصار الذي ثبتتهُ أربعة قرارات دولية خلال سبع سنوات.
لقد كان الدافع الأول للإيرانيين لتعديل مواقفهم الآثار الكبيرة للحصار الاقتصادي والتكنولوجي عليهم، والحيلولة دون تصدير النفط. إنما إذا كان هذا واضحاً، فلماذا كان البرنامج النووي الإيراني منذ البداية؟ وما هي الأهداف القريبة والبعيدة؟ تحدث روحاني في الأمم المتحدة عن بعض تلك الأهداف عندما قال إنّ إيران تريد اعترافاً بوصفها قوةً إقليمية، لأنها بالفعل كذلك. وهي مستعدة وقادرة على الإسهام في صنع الأمن والسلم بالمنطقة والعالم، وذكر مَثَلاً على ذلك كلاً من البحرين وسوريا! وهو بذلك اعترف بأن الإيرانيين متدخّلون في هذين البلدين العربيين على الأقل. ويعلم الجميع أنهم متدخلون أمنياً وعسكرياً أيضاً في العراق ولبنان واليمن. وقد نشرت المجلات والصحف الغربية في الشهر الماضي عدة مقالات عن سعَة نفوذ الجنرال قاسم سليماني مدير العمليات الخارجية بالحرس الثوري. والمفهوم أن تلك المقالات كان المقصود بها إظهار إنجازاته لإيران في مواجهة خصومه داخل الحرس الثوري، وفي محيط الرئيس روحاني الذي صار معروفاً أنه نجح في الوصول لسُدّة الرئاسة في مواجهة ثلاثة من المرشحين المقربين من المحافظين والحرس. وقبل ثلاثة أيام، ذكر الإسرائيليون أنّ مصطفى بدر الدين رئيس فريق اغتيال رفيق الحريري (بحسب المحكمة الدولية) قد علت مراتبهُ بتعيينه قائداً عسكرياً لـ«حزب الله» خَلَفاً لعماد مغنية الذي اغتيل بدمشق عام 2007، واتُهم الإسرائيليون بالعملية.
يفترض المراقبون الغربيون أن روحاني هو صاحبُ مصلحة في إبعاد الحرس الثوري عن العمل السياسي، وإنهاء تغولاته بالداخل والخارج. وهذا الأمر لا يعود لأسباب النفوذ السياسي والسلطة والحكم وحسْب، بل يعود أيضاً إلى السطوة الاقتصادية للحرس بالداخل، والإنفاق الواسع في الخارج، وخاصة في الدول العربية. فبالإضافة إلى الإنفاق خلال عام 2013 على أكثر من ثلاثين ألف مقاتل في سوريا من قوات «حزب الله» وميليشيا أبي الفضل العباس، وحوثيي اليمن وهزارة أفغانستان، هناك ما يزيد على عشرين مليار دولار أنفقتها إيران على الأسد ودعمه بالداخل والخارج، بينما «ساعده» المالكي بعشر مليارات! وهكذا فالتغيير السياسي الذي يقال إنّ روحاني يرى إجراءه يوفّر على إيران إنفاقاً هائلاً، فضلاً على تحسينه للعلاقات مع العرب ودول الجوار الأُخرى. إنما هل هذا ممكن، ما دام العقد الماضي في حياة الجمهورية هو عقد الحرس الثوري، وما دامت إيران تريد أن تصبح قوةً إقليميةً معترفاً بها؟ لقد اعتادت سياسات القوة، ونجحت فيها، وهذه حجة الحرس الثوري وسليماني الذي قال: لقد خلقْتُ للجمهورية الإسلامية عشر إيرانات في العالم العربي! فهل تغادر إيران سياسات القوة هذه لصالح الدبلوماسية والقوة الناعمة، من أجل توفير المال (39 في المئة من الشعب الإيراني تحت خطّ الفقر)، ومن أجل صنع نمط آخر من العلاقات قائم على حسن الجوار والتنمية والاعتماد المتبادل، كما تفعل تركيا وإندونيسيا ودول إسلامية أخرى؟
الأميركيون يقولون إنه لم يجْرِ مع الإيرانيين حديثٌ حتى الآن إلا في النووي. فلا حديث في المشكلات الثنائية، ولا حديث في مناطق تدخلهم وإمكان إجراء صفقةٍ أو تبادُلٍ بشأنها. وقد قال لي صديق إيراني معارض للنظام هناك لكنه يعرف العقليات: «إنّ الوقت مبكّر على الأحاديث المتشعبة، ولابد من تقدم في الملف النووي، وقد يغيّر روحاني الأسلوب فيتحدث إلى العرب. بيد أنّ ما ورثه من الحرس الثوري وولاية الفقيه في ست أو سبع دول عربية يكون ثقيل الوطأة عليه، ولن يستطيع الخلاصَ منه بسهولة». لقد استثمرت إيران في لبنان وسوريا والعراق استثماراً هائلاً بالمال والرجال والتنظيمات واستخدام المذهب الشيعي، ولن يكون سهلاً عليها بالطبع تحويل الأمر إلى مجرَّد علاقات حُسْن جوار وتبادُل تجاري على قدم المساواة، ومع احترام لسيادة الدول ووحدة مجتمعاتها! لذلك لابد من انتظار الخطوات التي ستكون وئيدةً في السياسات تجاه دول الجوار، لأنه ليس من «الحكمة» استثارة الحرس الثوري إلى الآخِر الآن. وهكذا قد يصبح الملف النووي هو «الأسهل»، وتصبح إعادة النظر في مسارات العلاقات الإيرانية العربية هي الأصعب على روحاني وعلى الولي الفقيه!
المصدر: صحيفة الاتحاد