كاتب وسياسي يمني عمل سفيراً لليمن في عدة عواصم كان آخرها مدريد
شهدت الأسابيع الماضية في صنعاء ارتفاعا في درجات العنف السياسي اللفظي – حتى الآن – بين قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام، وتحديدا بين الرئيسين الحالي عبد ربه منصور هادي (نائب رئيس الحزب وأمينه العام)، والسابق علي عبد الله صالح (رئيس الحزب)، ودخلا في سباق عبثي غير مألوف داخل التنظيمات السياسية المنضبطة حاول معه كل طرف إضعاف الآخر، استخدم فيه الأول موقعه الرسمي، بينما أدار الثاني الخلاف مستعينا بأدوات الحزب الذي صنعه بنفسه في مطلع الثمانينات، وكذا نسيج علاقاته التي تشكلت على مدى 33 عاما قضاها في الحكم، وما زاد من الافتراق بين الرجلين هو الاتهام الذي وجهه مجلس الأمن للرئيس السابق بعرقلة عملية الانتقال السياسي، ما دفع صالح إلى القول إن نائبه في الحزب (الرئيس الحالي) يقف خلف القرار وإنه قام بالتحريض لإصداره، وبصرف النظر عن حقيقة الاتهام أو عدمه إلا أنه زاد من تراكمات الشكوك والريبة والتخوف بين الطرفين وأنصارهما، والتي أثرت في أداء المؤتمر بداية وتعدتها إلى وضع الكوابح أمام عمل مؤسسات الحكم المتبقية، ولا بد أن ينسحب هذا على مجمل العملية السياسية.. وهنا يجب أن أؤكد أن القرار الأممي لم يكن إيجابيا، ولن يكون مفيدا، بل سيزيد من التوتر الحاصل داخل الساحة السياسية وسيترك آثاره السلبية على نيات رئيس الحكومة خالد بحاح الذي سيكون عليه التصرف بحذر شديد وأن يحاول جاهدا الوقوف على مسافة واحدة من كل الفرقاء والتخفيف من الظلم الذي تقول قيادات «المؤتمر الشعبي» وأنصار الرئيس السابق إنهم تعرضوا له في التشكيلة الحكومية، إذ لم يعد فيها من يمثلهم رغم أنهم الكتلة الأكبر في المجلس النيابي القائم.
هذا المشهد الحزبي العجيب يثير أسئلة كثيرة حول مستقبل البلاد والعمل السياسي بأكمله: ماذا يجري في الجنوب؟ من يدير البلد؟ من المعرقلون؟ ما مستقبل الدستور؟ كيف ستدار الانتخابات المنتظرة؟ كيف سينتظم «أنصار الله» في مؤسسات الحكم؟ ماذا تبقى من لقاءات الموفينبيك؟ ما مستقبل الجماعات المسلحة جنوبا وشمالا؟
إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة قد تساعد في تلمس مستقبل اليمن، ولكني لا أتصور أن أحدا بمفرده يمتلك ناصية الحقيقة ولا يوجد من يستطيع التكهن باتجاهات الإعصار المدمر الذي يضرب البلاد شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، ولكن ما أنا واثق منه أن الصراعات على حصص الحكم بين الفرقاء والتكالب المستمر على موارد البلاد الناضبة واستمرار إدارة الوطن بأشخاص لا تتعدى همومهم نطاق أسرهم أو في أفضل الأحوال مناطقهم، لا يمكن مع هذا كله توقع مستقبل أقل سوءا وأقل دمارا، وفي وسط التنافس بين الحكام الحاليين والطامحين تضيع بوصلة الوطن وينزلق نحو منحدرات لن يجد من يمد إليه يد العون ليوقف انهياره، وتتخبط قياداته ويزداد مقدار اليأس، وفوق هذا كله تمارس قياداته الكذب والتدليس والنفاق الرخيص.
حين بدأ اليوم الأول لما اصطلح على تسميته المرحلة الانتقالية ثم وصول الرئيس هادي إلى موقع الرئاسة كان من المفروض أن يستهل الحكم التعريف بهويته وأسلوب إدارته لشؤون الحكم، لكن الأشهر انقضت دون أن يلمس أحد تغييرا حقيقيا في موجهات المرحلة ولا شخوص من يديرونها ولا حتى نياتهم، ومن العبث تكرار الحديث عن الوقت المستنزف في الموفينبيك، والذي انتهت كل أحلام الشباب فيه إلى صفر عدا من حصل على موقع هنا أو هناك جزاء طاعته وولائه.
من خلال الفراغات التي تشكلت والفجوات التي تناثرت على سطح الساحة السياسية، تمكن «أنصار الله» من اقتحام أسوار المدن بيسر وسهولة، ويقال أيضا إنه تواطؤ يوجه فيه كل طرف أصابعه إلى خصومه، حتى وصلوا إلى العاصمة وفرضوا مواقعهم فيها، وبدأوا في إعادة تشكيل أسلوب عمل المؤسسات والرقابة عليها وانتهاج ممارسات خارج أطر ما هو معروف ومألوف، وزاد ذلك من حالة الاضطراب في كافة مستويات الحكم، وصار أقصى الأماني عند المسؤولين أن يطل يوم جديد وهم في مواقعهم.. لذلك كله لم يكن مستغربا أن يصبح لـ«أنصار الله» الكلمة الفصل في تسيير أمور الحكم لانشغال القائمين عليه بصراعاتهم ومماحكاتهم وعبثهم المستدام والمنهك لجسد البلاد. ولكن ما ليس مفهوما أو بالأصح ما ليس معلوما – حتى كتابة هذه السطور – ما هي نيات «أنصار الله»؟ وأين ستتوقف مسيرة جحافلهم المسلحة؟ وفي ظل أوضاع هلامية ليس من حق أحد طرح هذا السؤال، وليس من الملح عليهم أن يجيبوا.. هم يتحركون بسهولة ويسر ولا يستفزهم حنق الآخرين على تصرفات بعض مسلحيهم وتصريحات بعض أنصارهم وبيانات مجلسهم السياسي لأن الحال يؤكد أن كل هذا الغضب لا يمثل عبئا نفسيا أو حتى حرجا سياسيا، فقد اعتادوا أن ينتهي كل نقد واتهام وتلميح لممارساتهم إلى مراضاتهم وإعلانهم (شركاء في العمل الوطني) في الوقت الذي يقرر فيه مجلس الأمن أن اثنين من قياداته سيعاقبان رغم إدراك أعضاء المجلس الموقر أن قراراته لا تمثل لهما ولا لمؤسستهما أي قيمة مادية ومعنوية، والكل يدرك أن المستهدف الوحيد بالقرار هو الرئيس السابق الذي استطاع استثماره لمصلحته داخليا على الأقل ومرحليا.
لقد توقفت عن الحديث عن جنوب اليمن منذ فترة، فقد صار الوضع أكثر تعقيدا مما يبدو على السطح، وتناثرت قواه الخيرة وتمحور صراع القيادات حول الزعامة وتعددت الرؤى بين أطراف العمل السياسي هناك، وكم هو محزن أن يرى اليمني – أي يمني – هذا الشرخ النفسي المفزع الذي أحدثه كسل صنعاء (القديمة والحديثة) وغرورها في معالجة قضايا الناس والتنفيس عنهم وعدم التوقف عن السعي للتفريق بين أبناء الجنوب واستنساخ أساليب عتيقة في شراء الولاءات التي ربما نجحت آنيا، لكنها لا يمكن أن تشكل قاعدة يمكن البناء عليها للتخفيف من الحنق والغضب والضيق، بل والنزوع إلى نفي الانتماء إلى رقعة جغرافية واحدة اسمها اليمن.. ماذا كان يضير من أداروا المرحلة الانتقالية وعبثوا في الموفينبيك لو أنهم منحوا جنوب اليمن فرصة العودة إلى حدود 21 مايو (أيار) 1990 تحت مظلة دولة اتحادية؟ من وما الذي أخاف صنعاء من إجراء استفتاء في جنوب اليمن؟ هل نحن في وضع أفضل الآن؟ أتمنى ألا تكرر صنعاء مفردات وألحان التشدق بالوحدة اليمنية لأنها عملية سياسية انتهت إلى درك أسفل من التنافر بين الشطرين وتطرف في مواقف الجنوبيين بلغ عند بعض قياداتهم حد التجريف لكل مشاعر الروابط التاريخية والمكانية.
اليمني البسيط المكافح النبيل أوقعته مكائد السياسيين وجشعهم بين نهم الحوثيين في الشمال وضجر المتطرفين وعنتهم في الجنوب.. يحدث كل هذا في واقع من الخمول الذهني والعجز النفسي لدى من يتصورون أنهم يحكمون صنعاء.
المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=795536