عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
لا تزال الولايات المتحدة هي سيدة الموقف في الشرقين الأوسط والأدنى؛ هي سيدة الموقف بسبب قوتها العسكرية الأسطورية، وهي سيدة الموقف بسبب أمر آخر وهو أن سائر الأطراف بالمنطقة ومن حولها يريدون وساطتها ويريدون تدخلها سلما أو حربا أو الأمرين معا! وتتساوى في ذلك سائر الملفات العالقة: من قضية فلسطين، وإلى قضية الإرهاب، فإلى الملف النووي الإيراني، فإلى سائر المسائل المتعلقة بالاستقرار في هذه المنطقة المضطربة، ليس منذ الآن، بل منذ نهايات الحرب العالمية الثانية!
منذ عام 2004 أقدمت الولايات المتحدة على نقل الملف النووي الإيراني من الوكالة الدولية للطاقة إلى مجلس الأمن. ومنذ ذلك الحين ظلت التوترات من حول الملف تتصاعد، وقرارات العقوبات والحظورات تتوالى إلى أن بلغت أربعة وأكثر، دون أن يبدو منفذ أو مخرج كما دون أن يبدو خلاف ظاهر في المسألة بين الولايات المتحدة وحليفاتها من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى!
ومع مجيء الرئيس أوباما للسلطة في الولايات المتحدة، طرأ تعديل جذري على سائر السياسات الأميركية في منطقتنا، ومن ضمنها الملف النووي الإيراني. فكما أظهر الرئيس أوباما استماتة في السعي لإنهاء الحروب والنزاعات التي أثارتها إدارة بوش الابن عندنا ومن حولنا، وفي التوسط بين إسرائيل والفلسطينيين، أظهر أيضا حرصا كبيرا جدا على تغيير علاقات الآفاق المسدودة على مدى ثلاثين عاما وأكثر بين الولايات المتحدة وإيران. وما ظهرت لمساعيه تأثيرات واضحة في أي من هذه الملفات الكبرى في فترة رئاسته الأولى، ومن ضمن ذلك العلاقات المتوترة، وإنما غير المنقطعة، بجمهورية إيران الإسلامية. إنما مع فوز الرئيس روحاني عام 2013 حدث اختراق كبير في الاتفاق المبدئي على وضع النزاع مع إيران بشأن النووي على سكة الحل. ويومها أظهرت أطراف عربية دهشة وخيبة باعتبار أن أحدا ما أشرك ولم يعلم باستثناء سلطنة عمان. ومنذ ذلك الحين لا تزال هذه الإحساسات السلبية أو الشكوك في سياسات الولايات المتحدة حاضرة ليس لدى بعض السلطات العربية فقط، بل ولدى الجمهور العربي!
لكن، هل كان الاضطراب في العلاقات الأميركية – العربية عائدا إلى الموقف الأوبامي من النووي الإيراني، أم هو عائد لأمور أخرى؟ كانت العلاقات العربية بالولايات المتحدة فاترة قبل مفاوضات النووي واتفاقاته، بسبب سلوك الولايات المتحدة في العراق الذي غزته ثم غادرته ليقع بالأيدي الإيرانية. وكانت فاترة للموقف الأميركي من المذبحة في سوريا، وهو الموقف الانكفائي حتى بعد سقوط مئات الآلاف من القتلى، وتهجير الملايين، وبعد استخدام الكيماوي ضد السوريين بكثافة، وبعد تدخل الميليشيات الموالية لإيران والآتية من كل حدب وصوب للمشاركة في المذبحة بسوريا إلى جانب الأسد ونظامه! وكانت فاترة لازدياد الانسدادات في قضية فلسطين رغم الجهود الأميركية. وهكذا، فإن الانفراج النووي الحاصل أو المرتقب بين إيران وأميركا ما كان غير القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل العربي!
ماذا لو حصل الاتفاق النووي، وماذا لو لم يحصل؟ وزير الخارجية العماني يرجو من وراء حصوله خيرا كثيرا للعرب والمنطقة. ورئيس وزراء لبنان يرجو إن حصل الاتفاق أن يسمح لنا الإيرانيون بانتخاب رئيس للجمهورية، بعد مضي سبعة أشهر على خلو منصب الرئيس بالبلاد! وطبيعي ما دام الانطباع لدى بعض العرب على هذا النحو، أن هؤلاء يعتقدون أن إيران متشددة تجاه مناطق نفوذها المتكونة في بلاد العرب بالعراق وسوريا ولبنان واليمن.. إلخ، لأنها تعتبرها أوراقا للمساومة والتبادل مع الولايات المتحدة، وأن استجابة أوباما لإيران في هذا الملف الحساس، ستدفع إيران لفتح قبضتها المتشنجة بحيث تطير منها بعض الأوراق التي تسقط بردا وسلاما على العرب. ومسألة المبادلة أو المقايضة هذه ما ذكرت إيران علنا عنها شيئا، لكن الفكرة واردة لدى الأميركيين على الأقل. فمما تسرب عن رسائل أوباما الأربع السرية لمرشد الثورة الإيرانية، يعرض الرئيس الأميركي التعاون مع إيران في «مكافحة الإرهاب»، إن تنازلت في «النووي»! وإيران من جهتها تقول علنا إنها جندت نفسها لمكافحة الإرهاب دون انتظار للتعاون أو السماح الأميركي. فميليشياتها في سوريا والعراق واليمن ولبنان تقول كل يوم إنها تقاتل ضد التكفيريين، ولحماية مراقد آل البيت من الإرهابيين الذين يريدون تخريبها. والأمين العام لـ«حزب الله» قال أخيرا إنه بسبب شدة حرصه على قتل الإرهابيين يجند سنّة ومسيحيين أيضا من لبنان وسوريا للغرض ذاته. والجنرال سليماني يظهر دوريا على الجبهات بالعراق بمفرده أو إلى جانب المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق، متمدحا بالانتصارات التي يحققها على الإرهابيين. وحتى الحوثيين باليمن الذين يرفعون شعارات: «الموت لأميركا»، و«الموت لإسرائيل»، منذ عام 2004 في صعدة وأخيرا في عمران وصنعاء وإب والحديدة، يقولون الآن إنهم ذاهبون إلى مأرب وشبوة وأبين بعد البيضاء والجوف لمقاتلة «القاعدة». وفي هذه المهمة الجديدة تشاركهم الطائرات الأميركية من دون طيار أحيانا، وقوات الحرس الجمهوري اليمني السابق، أحيانا أخرى!
كانت الولايات المتحدة إذن قد غادرت المنطقة وتركتها لإيران، وهي تعود الآن إلى المنطقة دون أن تغادرها إيران، بل هي تعرض عليها البقاء من أجل التعاون والشراكة في مكافحة الإرهاب! فليس بين إيران والولايات المتحدة حاليا إذن غير ملف واحد محل نزاع هو الملف النووي، وفي مقابل التنازل أو التسوية فيه، يجري فك الحصار. وإذا كانت روسيا العظمى تتضايق من العقوبات الأميركية والأوروبية من أجل أوكرانيا، فلماذا لا نصدق أخيرا أن الحصار مضن بالنسبة لإيران، وأنه يمكن أن يكون هو الثمن الذي تطلبه لتأجيل إنتاج القنبلة أو سلاح الدمار الشامل؟! أما البلدان العربية الأربعة على الأقل، التي دخلت عليها وخربتها، فتبقى خارج المبادلة أو المقايضة، باعتبارها غنائم حاصلة! لقد كادت السيطرة الإيرانية بالعراق تنهار على يد «داعش»، وها هي الولايات المتحدة تعيد ترميمها! وما قلت براميل الأسد المتساقطة على رؤوس السوريين بعد التعاون العربي ضد «داعش»!
إن الذين يعلقون آمالا إذن على تنازل إيراني في المذبحة السورية، أو في الرئاسة اللبنانية، أو في مغادرة اليمن، أو في التسهيل في البحرين مثلا، هم واهمون. ولن تبدأ إيران بالتفكير في إدخال تغييرات على سياستها الخارجية تجاه العرب إلا إذا انكسرت ميليشياتها أو حرسها الثوري في مكان ما، بحيث يؤثر ذلك في الداخل الإيراني. إن هذا الانكسار لم يحصل بعد، ولا هو في الأفق المنظور.. ولذا لا داعي للتفاؤل أو التشاؤم العربي إن حصل الاتفاق النووي أو لم يحصل!
المصدر: الشرق الأوسط
http://www.aawsat.com/home/article/226841