عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
تنطوي الفكرة الدينية عندما تتمترس في العالم السياسي على احتمالات كبيرة وكثيرة للعنف والإرهاب: العنف لفرض النفس رجاء التمكين، والإرهاب إذا لم يكن هناك أمل في بلوغ السلطة والسيطرة. وقد كان الأمران واضحَين بالنسبة لي منذ قتل إسلاميون مصريون الرئيس السادات عام 1981. بيد أن ما لم يكن واضحاً حتى قيام الثورات العربية عام 2011 هو مدى الافتراق الحاصل بين التنظيميين والجهاديين من الإسلاميين. فخلال متابعاتي الطويلة التي سجلتُها في ثلاثة كتب ومئات المقالات، لاحظتُ الفروق في التصرف وردود الأفعال بين الإسلاميين الحزبيين والآخرين الذين يشنون حملات الجهاد. ولأنني ما تنبهت إلى استكشاف «الخيط الناظم» بين الطرفين، وهو استخدام الدين في الصراع السياسي أو اعتبار الدين جزءاً أساسياً من شرعية الدول والأنظمة؛ فقد توصلتُ إلى استنتاج ترجيحي مؤداه أنّ الحزبيين تلاءموا إلى الحدود التي تسمح بمشاركتهم في الانتخابات الحرة، وفي الخضوع لنتائجها، وفي عدم اللجوء إلى العنف حتى وإن لم تتحقق آمالُهُم كلياً. وقد كان ذلك الاستنتاج ترجيحاً، لأنهم ظلوا شديدي الانتقاد للغرب وديمقراطياته، كما ظلوا غامضين في مراعاة مسألة المواطنة وحقوقها وواجباتها، وظلوا أخيراً غامضين في موقفهم من الجهاديين، حتى عندما كان الجهاديون يهاجمونهم.
إنّ لدينا الآن ثلاث تجارب واضحة فيما يتعلق بالإسلاميين الحزبيين والعنف: انتخابات الجزائر 1991/1992، وانتخابات فلسطين عام 2006، وانتخابات مصر 2011/2012. وهناك فروق بالطبع بين الحالات الثلاث. أما في الجزائر فقد خاض الحزبيون الانتخابات البلدية وفازوا بها، ثم المرحلة الأُولى من الانتخابات البرلمانية. وقد خشي العسكريون فوزهم الكاسح، فعطّلوا المسار الانتخابي وشنّ حرباً على الإسلاميين الذين ما وصل الأمر إلى منتصف التسعينيات حتى ما عاد هناك فارقٌ بين «جبهة الإنقاذ» وبين الجهاديين الذين ما كانوا يفرّقون بين المدني والعسكري في القتل. واستطاع الجيش بعد عام 1998 السيطرة بشكل عام لكن التكلفة كانت عشرات أُلوف القتلى. وقد أُنتجت عملية سياسية بعد ذلك في إطار المصالحة التي خاضها بوتفليقة الذي أتى به العسكريون، لكن الإسلاميين المشاركين فيها ما استطاعوا إثبات وجودهم من خلال الانتخابات. وبالإضافة إلى العَرَج الذي ما يزال يسود العملية السياسية؛ فقد كانت للصراع في الجزائر تداعيات أُخرى في المغرب العربي، وفي بلدان الساحل الإفريقي، التي انتشر فيها الجهاديون فزعزعوا أنظمتها ودولها، وكلُّ ذلك انطلاقاً من الجزائر التي سلكت وما تزال سلوكاً غامضاً تجاه هؤلاء خارج أراضيها حتى في تونس المجاورة! وخلاصة الأمر أنّ إسلاميي الجزائر ما كانوا ديمقراطيين ولا مسالمين، شأنهم في ذلك شأن العسكريين المسيطرين على مصائر الجزائر.
لكنّ «حماس» في فلسطين عام 2006، تكاد تُغطّي على تجربة إسلاميي الجزائر. فقد أصرَّ الأميركيون على عبّاس لإجراء انتخابات تشارك فيها «حماس». والطريف أنّ المعارضين لذلك ما اقتصروا على الإسرائيليين والبريطانيين؛ بل كان الإيرانيون والسوريون معارضين أيضاً لمشاركتها. وقد رأيتُ بالمصادفة ردود أفعال مصريي «مبارك» على الفوز الكبير لـ «حماس»، وكانوا مُرتاعين أيضاً. فإيران ضد التسوية، ولذا كانت تخاف ضياع سمعة «حماس» الجهادية؛ إذ تُشارك في عملية أوسلو وشروطها. لقد فهمت «حماس» بعد فوزها أنه بوسعها السيطرة الكاملة ولو كان ثمن ذلك التهادُن مع إسرائيل. ولأن الجميع ما تقبلوا ذلك الفوز (وضمنهم أميركا وإسرائيل وليس دحلان فقط!)؛ فقد مهَّدت مُحاصرة «حماس» لانفصالها بغزة عن فلسطين، وصار بوسعها القول: إن لم تقبلوا الديمقراطية التي «أرغمتموننا» عليها، فنحن أحرار في الانفصال، بل وفي العودة للانغماس في المحور الإيراني السوري، ومناكفة مصر بدلاً من مناكفة إسرائيل! هل كان الحماسيون ديمقراطيين؟ بالطبع ما كانوا كذلك؛ لكن حُجة «صندوق الاقتراع» ظلّت مُتداوَلةً حتى الحرب على غزة 2008-2009. ورغم الحصار الخانق على القطاع؛ فإن المخابرات المصرية عادت للتعامُل مع «حماس» على قدم المُساواة مع إدارة عباس. وأدَّت سياسة «الأنفاق» الشهيرة إلى ازدهار اقتصاد «حماس»، وازدياد التعاطُف معها. والأمر الآخر أنه صار للجهاديين في غزة وسيناء مجال شاسع للتصرف والحركة ما يزال مستمراً حتى اليوم. ووسط هذا الضياع نتيجة التدخل الإسرائيلي، والتدخل الإيراني، والتدخل السوري، ضاع السؤال الأهم: هل يقبل الإسلاميون بالفعل مقتضيات صندوق الاقتراع حتّى لو أدّت إلى خسارتهم؟
كانت «حماس» ولا تزال المَثَل الأبرز لاجتماع التنظيمي والجهادي، رغم تنافي الأمرين تنافياً كبيراً. فإيران مثلاً دولة كبرى مستقرة وتملك سُلُطاتُها من الوسائل ما يسمحُ لها بالسيطرة على كلّ موقف. ومع ذلك فعندما تهدَّدت حظوظ نجاد في دورته الثانية عام 2009؛ فإن تلك السلطات ما ترددت في تزوير نتائج الانتخاب، واستخدام العنف المُفرِط ضد المتظاهرين السلميين على أحداث الانتخابات المفضوحة. فهل كانت «حماس» ستنفصل بغزة لو لم تفُزْ في انتخابات 2006؟ الذي أراه (بدون يقينٍ بالطبع) أنها كانت ستفعلُ ذلك بدوافع ذاتية، وبدوافع إيرانية وسورية! لقد كان على المتابعين منا للأحداث في فلسطين وغزة بين عامي 2007 و2010، أن يتنبهوا للصِلات الوثيقة بين «الإخوان» والجهاديين منذ ذلك الحين. فالوصول للسلطة بأي شكل، لن يُنسيَ الإسلاميين الحزبيين ميراثهم الجهادي أو استخدام القوة في صُنْع السلطة وترتيباتها. فالقوة باسم العقيدة هي جزء من السياسة لدى الإسلاميين، كما أنّ استخدام العقيدة هو ضرب من سياسات القوة في الاعتقاد والتصرف.
إن هذه التأملات لا تبدو مفيدةً الآن، لأنه رغم نموذج «حماس»؛ فقد كنتُ ممن لم يروا خَطَراً في تحول «الإخوان» إلى قوة رئيسية أو القوة الرئيسة بعد الثورة المصرية. إذ مكث «الإخوان» ثلاثين عاماً تحت وطأة سياسة الملاحقات دون أن يلجؤوا ظاهراً للعنف. بل تحدثوا للسلطات القائمة في مصر وتونس في أيام الثورات الأُولى، لطمأنتها إلى أنهم لن يدخلوا في المعمعة ضدَّها. والمعروف أنهم نسّقوا المسار الانتقالي بعد سقوط مبارك مع المجلس العسكري الذي كان قائماً. وكُلُّ ذلك كان ينفي ظاهراً إمكان لجوئهم للقـوة إن شعروا بالضيق. وربما كانت لديهم قناعة عمـيقة بقوة مؤسسـات الدولة المصرية، بحيث يسهُلُ عليهم إذا وصـلوا للسلطة (الرئاسة بالذات) التصرف كما يشاءون! وفي أيامهم الأُولى ما كان معروفاً للجمهور استعانتهم بـ «حماس» أثناء الثورة وبعدها. كما لم يكن معروفاً أن لديهم خيطاً ناظماً مع جهاديي سيناء، ولا أحد يدري حتى اليوم مدى عمق صِلاتهم مع إيران ومع «حزب الله»، فضلاً عن «حماس». وقد تصرفوا بذكاء قبل فوزهم بالرئاسة، فلما وصلوا تركوا كلَّ شيء وراء ظهورهم، وراحوا يضربون المؤسّسات التي استعصت على سيطرتهم، وصرحوا بعلاقاتهم مع «حماس» ومع جهاديي سيناء الذين ما توقفوا عن مصارعة الجيش وقوى الأمن هناك. وهكذا فقد وقفت في وجههم المؤسسات الرئيسية التي كانت مهدَّدةً بالانكسار فتنكسر الدولة المصرية، وهي: القضاء والجيش والأزهر والإعلام. فكان لا بد أن يتحرك الشباب بالملايين، وأن يتحرك الجيش المصري لتصحيح المسار.
ما سقط «الإخوان» بالضربة القاضية، لكنهم سيسقطون عندما تنجح السلطة المصرية الجديدة. فهم لا يصلحون للاستئثار بالسلطة منفردين لسببين: الديني، والسياسي. الديني لأنهم يعمدون لاستخدام الدين لأهداف سياسية، فيؤدي ذلك إلى الانقسام والتشرذُم. أما السياسي، فلأن الناس هم أصحاب السلطة، وهم الذين يكفلون بحسْن أدائهم منع الاستبداد بشؤون الدولة والنظام. أما «الإخوان» ففضلاً عن عدم كفاءتهم الثابتة في إدارة الشأن العام؛ فإنهم بسبب اعتقادهم أنهم على الحق دائماً، يحاولون فوراً الاستفراد بالسلطة والناس. وستكلِّف إزالة «الإخوان» من السلطة مصر كثيراً، لكنهم يجب أن يزولوا حفظاً لمصر وللدين والدولة، وهي ثلاثة أمورٍ صار معظم الناس في العالم العربي يدركون مخاطر الإسلام السياسي عليها.
المصدر: صحيفة الاتحاد