عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
ما حدث شيء غير عادي أو غير متوقع في قمة الكويت. فقد توقع المراقبون أن يكون هناك اهتمام بالقضية الفلسطينية، والملحمة السورية، وملحمة الإرهاب. وتوقع الكثيرون أن لا تنحلَّ الخلافات العربية ولا تخمد، بل يجري تجميدها خلال يومي القمة. ومع ذلك تبقى هناك أمور وقضايا والتفاتات لابد منها، هي ما يبرز الخصوصيات والأَولويات لكل طرف عربي، في الوقت الذي تُبرز فيه المشتركات والافتراقات وما جرى السكوت عنه.
أبرزُ المشتركات بين الحاضرين للقمة ملفّان: القضية الفلسطينية، ومسألة الإرهاب. وقد كان ضرورياً إرسال رسالة في مسألة فلسطين قبل وصول أوباما إلى المملكة العربية السعودية. وكانت الرسالة هي الرفض العربي القاطع لاعتبار إسرائيل دولة يهودية في أي تسوية مقبلة. ذلك أن المفاوضات بين الطرفين في مرحلتها الحاضرة، تكاد تبلغ منتهاها بمُضي عشرة أشهر عليها. وهذه المرة الثالثة أو الرابعة أيام أوباما التي تسير فيها المفاوضات بحماس ثم تتوقف بدون نتيجة باستثناء زيادة الاستيطان(!). أما هذه المرة فأراد الأميركيون تجنب ظهور المأزق بتوقف المفاوضات، وذلك باختراع شيء اسمه «اتفاق إطار» يعرضه الأميركيون على الطرفين، فيوافقان عليه، ومن حق كل طرف الاعتراض على النقاط التي لا يقرها. وصار واضحاً للفلسطينيين أنّ هناك في «اتفاق الإطار» عدة نقاط لا يمكن الموافقة عليها: بشأن إلغاء حق العودة، وبشأن الحدود، وبشأن الأمن، وبشأن المياه، وبشأن القدس.. وأولًا وأخيراً بشأن يهودية دولة إسرائيل. أما الاعتراضات على الأمور الأخرى فمعروفة من قبل. لكن يهودية الدولة جديدة ويبدو أنّ نتنياهو وضعها شرطاً ليصبح الاتفاق مستحيلا. فمنذ عام 1917 تسعى الحركة الصهيونية لإقامة الوطن القومي لليهود. لكن فلسطين ما كانت خراباً بلقعاً. والفلسطينيون لهم حق تقرير المصير مثل سائر شعوب العالم. ويبلغ عددهم اليوم في فلسطين المحتلة ثلث السكان: فماذا سيجري لهم إن صارت الدولة رسمياً وليس عملياً فقط لليهود؟ ألن يهجّروهم؟ ثم إنه بمقتضى حق العودة بالقرار الدولي رقم 194 لملايين الفلسطينيين أن يعودوا إلى ديارهم التي فقدوها بالتهجير، فكيف سيُسمح لهم بذلك أو حتى بالتعويض عنه إنْ أُلغي هذا الحقّ في أي اتفاق للتسوية؟! إن الذي جرى تداوله من مصادر أميركية أن أوباما ووزير خارجيته مهتمان بعرض الأمر على المملكة عساها تساعد في التأثير على الفلسطينيين لاستمرار التفاوُض على الأقل! أما المملكة والعرب الآخرون فقد كانوا صريحين لجهة الرفض المطلق ليهودية الدولة المحتلة القائمة على أرض فلسطين.
وما كانت القضية الفلسطينية هي المشترك الوحيد بين العرب في القمة، بل كان هناك مشتركان آخران لكنهما ناقصان نقصاً شديداً. المشترك الثاني بعد فلسطين هو الإرهاب وإنكاره واستنكاره. والمؤتمرون يعنون به إرهاب «القاعدة» ومتفرعاتها في موجتها الثانية والتي تشتعل اليوم في مصر واليمن والعراق وسوريا، وينال شُواظُها عدة بلدان أُخرى عربية وغير عربية. لكني لا أُحبِّذُ استخدام مفرد «التكفيريين» في المكافحة أو النبز. فهؤلاء قتلةٌ ونحن لا نختلف معهم في الدين، بل نختلف معهم بشأن أفعالهم الإجرامية. ولستُ أعلم كيف بدأنا في وسائل إعلامنا وبياناتنا الرسمية، نسمّي الذين يمارسون الإرهاب والقتل في صفوفنا تكفيريين! كأنما خلافنا معهم على الإيمان والكفر، بينما هو خلاف على أمن المواطنين والأوطان: فكيف نُجاري الإيرانيين في «إحلال الدم» بحُجج دينية، تزيد الأُمور سوءاً، وتغير وجه القضية التي نناضل من أجلها؟
وليس لهذا السبب قلتُ إن مشترك الإرهاب في القمة العربية، كان ناقصاً. بل لسبب آخر شديد الأهمية والوضوح. فإيران تملك تنظيمات مسلحة علنية تمارس القتل والاغتيال في أربع دول عربية على الأقل وهي: العراق وسوريا ولبنان واليمن. فماذا نُسمي أعمال القتل التي يقوم بها الإيرانيون وميليشياتهم في هذه البلدان، ولأسباب طائفية وقومية؟ الجهات الدولية تقول عن «حزب الله» إنه، أو إنّ جناحه العسكري، تنظيم إرهابي. والأميركيون يقولون إن تنظيمات مثل تنظيم «أبي الفضل العباس»، وتنظيم «عصائب أهل الحق»، هي بمثابة فِرَق موت في العراق وسوريا. والإيرانيون لا يدعمون الحوثيين الطائفيين باليمن، وحسْب؛ بل يدعمون أيضاً الانفصاليين في الجنوب وزعيم الانفصاليين في اليمن مقيم بلبنان في حضن «حزب الله»: فلماذا السكوت عن هذا الإرهاب، وإرهاب إيران وتنظيماتها الطائفية خطر علينا في لبنان وسوريا والعراق مثل إرهاب القاعديين الذين لبشار الأسد والمالكي «فضائل» بشأن خروجهم الآن ليقتلونا نحن، كما تقتلنا ميليشياتهم؟ ومتى قاتلت «داعش» ضد الأسد في سوريا؟!
أما المشترك في الملحمة السورية فكان شديد النقص أيضاً. فقد اعترضت الجزائر والعراق على الملف كُلِّه، وبقي لبنان نائياً بنفسه. وتحدث عديدون عن الحل السياسي. والجميع يعرف أن «جنيف-2» انتهت إلى غير رجعة بسبب الموقف الروسي الذي ازداد سوءاً بعد أوكرانيا. ثم إن نظام الأسد ما نفّذ القرار الدولي بشأن الممرات الإنسانية. فلا يكفي الحديث عن هول الكارثة الإنسانية، وإجرام النظام والإرهاب في الوقت نفسه. وذلك لأن سوريا دولة عربية، وعلى العرب أن يجترحوا الحلَّ المنقذ لها بالسلم أو بغيره. ولأنه ما أمكن لهم ذلك، انصرفوا لتطلب الحل الدولي الذي أفلس أيضاً: فالذين يريدون حلا سلمياً بالفعل يُنهي الدم والقتل، عليهم أن يُحدثوا توازُناً على الأرض عبر تنظيم المعارضة وتسليحها للدفاع عن نفسها وعن المدنيين. وإذا كانوا لا يثقون بالمعارضة المسلحة، كما يثق الإيرانيون بـ«حزب الله» و«عصائب أهل الحق»، فليرسلوا عشرة آلاف أوعشرين ألفاً إلى سوريا ممن يثقون بهم ويقودونهم، بدلا من الاكتفاء بمنع الشبان من الذهاب إلى هناك حتى لا يصطادهم المتطرفون إلى جانبهم!
أعرف أنّ هذه الأفكار والمقترحات شديدة الإشكال. لكن المأساة السورية تجاوزت كل حد. وتوشك سوريا أن تضيع من أيدينا وأيدي شعبها، ولا يبقى لنا ولهم غير الخراب الذي يتهادى فوقه الإيرانيون وميليشياتهم: ألا يمكن الخلاص من أهوال «داعش» والأسد والإيرانيين معاً؟
من عادة العرب بعد كلِّ قمة القول إن القرارات متواضعة، بيد أن المهم تنفيذها. أما هذه القمة فليست فيها على تواضع نتائجها قرارات تستلزم تنفيذاً. لقد كان هناك إصرار على بلوغ حد أدنى من المشتركات في فلسطين وسوريا والإرهاب. وقد توصل المجتمعون إلى حد مقبول ومعقول بحيث يتعايش الذئب مع الغنم. إنما علينا أن لا نتجاهل هول المخاض الذي نحن غارقون فيه، وسط الاضطراب الداخلي، والإرهاب، وتغول الأمم علينا. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المصدر: الاتحاد