عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
أصدر صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة قانون مكافحة الجرائم الإرهابية. وهو أمرٌ قامت به من قبل دول عربية وإقليمية وعالمية. والذي أراه أن إصدار قوانين ضد الإرهاب، ومن أجل مكافحته والمعاقبة على ارتكابه، أمر مطلوب ولابد منه، وذلك لثلاثة أسباب جوهرية؛ الأول هَول الظاهرة وتعقيداتها وتداخُلاتها وتشابكاتها المحلية والإقليمية والدولية، والتي ما عاد أي قانون عادي للعقوبات يغطيها. والسبب الثاني أنه لا عقوبة إلا بنص؛ فبدلا من أن تلجأ السلطات إلى إجراءات أمنية احترازية، يأتي القانون ليجعل كل شيء واضحاً، لأن الدول المحترمة هي دول حكم القانون، الذي يتضمن ضمانات لأمن الدولة واستقرارها من جهة، ولحريات المواطنين واحترام حُرُماتهم وحقهم في الخصوصية وصون السمعة من جهة ثانية. والسبب الثالث: حق الدولة وواجبها في الدفاع عن نفسها ومواطنيها في مواجهة أي خطر، ولا طريقة لذلك غير إصدار قانون بمقتضى الحق السيادي، وبالتلاؤم مع القوانين الدولية ذات الصلة بموضوع الإرهاب. ذلك هو واجب السلطات العامة، وقد قامت وتقوم به. والحقيقة أن ظاهرة التطرف الديني بحد ذاتها تعني إفساداً للدين، بوضعه من جانب فئة مهما صغُرت في مواجهة المواطنين الآخرين ضد اعتقادهم الديني، وضد أمنهم واستقرارهم، فضلا عن إشاعة التفرقة بين أبناء الأمة بما يتجاوز حدود الدولة إلى نواح كثيرة، إسلامية وغير إسلامية. وهذا يعني عزلا للعرب والمسلمين عن العالم بالقوة أو بسوء التقدير والتدبير. وقد حدث ذلك خلال السنوات الخمس عشرة الماضية بسبب تصرفات «القاعدة» ومتفرعاتها. وهذا كله يقعُ في جانب، ويقع بنفس الهول والخطورة في جانب آخر واقعُ وجود تأويلات شاذة للدين مورست خلال ستين عاماً وانهمك فيها كثيرون، وما لقيت نقداً جاداً من أحد حيث استقرت كجزء أصيل من تاريخ التجربة الإسلامية!
ما هي مآلات هذا الكلام؟ هناك خطاب ديني جديد ومبتَدَع لا يستند وحسب إلى تفسيرات ضيقة وعامية باسم الدين؛ بل ويحظى بشعبية في أوساط فئة معينة من الشبان من أنصاف المتعلمين. أما الفاعلون في مجال هذا الخطاب فهم قسمان، القسم المقاتل، وهؤلاء -مثل قادة اليسار المتطرف في الستينيات والسبعينيات- يعشقون السلطة والتسلط، وما استطاعوا الوصول لتلك الهالة بالطرائق المتعارَف عليها في مجتمعاتهم. وبن لادن والظواهري والزرقاوي والبغدادي من هذه الفئة. والقسم الثاني هم من الدُعاة وصُنّاع الخطاب المتطرف. وهو قسم واسع، وقد وصل أولئك الخطباء من خلال وسائل الإعلام والاتصال خلال عقدين وأكثر لأوساط واسعة، وجذبوا جماعات من رجال الأعمال المتدينين، وممن لهم مشكلات مع إدارات بلدانهم، وممن هم مستعدون للعمل لصالح سياسات دول وأنظمة باسم نُصرة الدين.
وإذا كان الخطاب المتشدد، بدُعاته و«مجاهديه»، قد نشر أفكاراً مثل ضرورة تطبيق الشريعة، وضرورة إقامة الخلافة لاستعادة الشرعية، وضرورة ممارسة العنف للوصول إلى الأمرين؛ فإن برامج التعليم الديني بالمدارس، ما كانت معنية بعرض صورة ودود ومسالمة ومنفتحة عن الدين ووحدة المسلمين وعلاقاتهم الطيبة بالعالم. وقد فوجئ التربويون العرب والمسلمون في عدد من البلدان، عندما واجههم الأميركيون وبعض الأوروبيين بعد عام 2001 بضرورة «إصلاح» برامجهم التربوية، وبخاصة برامج التعليم الديني. وقد عرضتُ في كتابي «الصراع على الإسلام» (2004) لهذا الأمر في فصل مستقل، ورأيتُ أن دعوات الأميركيين مبالغ فيها، والبرامج الدينية لا تشكو من الأُصولية، بقدر ما تشكو من الجمود والنزعة التلقينية، وتسيُّس وأُصولية المدرِّسين! وأنا الآن أرى أنني كنت مخطئاً في التقليل من شأن تأثير البرامج على عقول الصغار، وتأثير المعلِّمين وطريقتهم في التدين وتعليم الدين على هؤلاء الصغار أيضاً. ونحن نعلمُ منذ عشر سنوات على الأقل أنه في ثلاثة بلدان عربية؛ فإن المدارس الرسمية غير الدينية، تتضمن برامجُها التعليمية ست مواد دينية عبر كل مراحل التعليم الأساسي والإعدادي.
إن الذي قادني للتقليل من شأن تأثير التعليم الديني؛ كان اعتقادي أن الأخطَر هو عمليات تحويل المفاهيم التي كان يمارسها الإسلاميون المسيَّسون في المعاهد العليا للتعليم والجامعات، وفي الأجواء الثقافية العامة. إنما حتى لو كان ذلك صحيحاً؛ فمعناه أن هناك انتقالا للسلطة والتأثير في مجال التعليم الديني والثقافة الدينية من فئة (تقليدية) إلى فئات أخرى جديدة.
من هي الفئة التي تمارس التعليم الديني للصغار والكبار، وتمارس الفتوى وقيادة العبادات والإرشاد العام؟ إنهم رجال المؤسسات الدينية، والذين كانوا وما يزالون يتولون رسمياً صلاحيات الإشراف على المساجد والأئمة والفتوى والتعليم. وقد تراجعت صلاحياتُها وقدراتُها في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية لصالح الحزبيين والمسيسين الذين اصطنعوا صورة جديدة للإسلام، تضعهم في قلب الصورة، باعتبارهم رواد إعادة الشرعية الدينية لمجتمعاتنا من خلال الاستيلاء على إدارة الشأن العام!
إن علينا العملَ لإعادة القوام والاستقامة إلى المؤسسات، بحيث تعود لتولي مجالات وملفات الشأن الديني، بدلا من المتشددين. ومع استعادة القدرات، لابد أن تُستعاد الحجية في عيون الناس اختياراً لأن الإجبار غير ممكن. وهذه شؤون مهمة ما عاد يَحْسُنُ الإعراض عنها أو التقليل من شأنها على مستوى التربية والممارسة والخطاب والثقافة. من الواضح أن الحجية لا تُستعادُ بسلطة الدولة، بل باقتناع الناس برجحان المؤسسة ورجالاتها من خلال المعرفة والرسالة. كان الإمام علي بن أبي يقول لأنصاره مستحثاً: عجبتُ لجرأة أولئك على باطلهم، وتخاذُلكم عن حقكم!
العنف باسم الإسلام، يضع ديننا وأمتنا في مواضع الخطر. ويكون على المجتمع ومؤسساته الإسلامية، صون الدين في أزمنة التغيير والفوضى، وفي كل زمان!
المصدر: الاتحاد
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=80860