كاتب وسياسي يمني عمل سفيراً لليمن في عدة عواصم كان آخرها مدريد
في مشهد تاريخي بسيط وجميل سيتذكر أبناء تونس وأجيالها القادمة يوم 27 يناير (كانون الثاني) 2014، حين وضع رؤساء الجمهورية والمجلس التأسيسي والحكومة توقيعاتهم على الدستور التونسي الجديد الذي جاء علامة فارقة في مضامين العقود الاجتماعية العربية وصار الأكثر تميزا بنصوصه الحامية للحريات العامة والشخصية وخلق توازنا استثنائيا بين السلطات بحيث لا تطغى إحداها على الأخرى، وجاء شاهدا على تميز هذا القطر وارتقاء مستوى المجتمع المدني فيه والدور الحيوي والنشط للمرأة والنقابات، والأهم هو حياد القوات المسلحة وأجهزة الأمن. وحسنا فعل رئيس المجلس التأسيسي بأن أعاد الفضل إلى «شهداء الربيع التونسي» ثم خص بالعرفان الرجل الذي ناله الجحود والنكران وتعرض لشتى أنواع التهم التي يمتلأ بها قاموس الحكام العرب الثوريين: الراحل العظيم الحبيب بورقيبة مؤسس الدولة التونسية الحديثة التي جنى ثمارها الشعب بكافة فئاته بمن فيهم من كان معارضا له.
كان لافتا أثناء الجلسة الإشادة بالجيش والأجهزة الأمنية لحياديتها في الخلافات السياسية بين الفرقاء، ووقوفها مدافعة عن الدستور والقوانين النافذة، وانعكس كل ذلك في التحية التي خص بها الحاضرون قادة الجيش والأمن، ومن اللافت أيضا أن أحدا من هؤلاء لم يبعث بتهنئة تحمل في طياتها تهديدا ووعيدا لمعارضي التحول الدستوري كما يحدث في غير قطر عربي. وصحيح أن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي واصل نهج بورقيبة في الجانب الاجتماعي، لكنه حول الأجهزة الأمنية إلى أدوات بطش شديد وارتفعت معدلات الفساد في الدوائر المحيطة به ومنح الأقارب اليد الطولى في إدارة شؤون الحكم، مما أوصل الأوضاع إلى حالتي احتناق واختناق تحولتا إلى انفجار شعبي.
أثناء متابعتي للجلسة حضرت إلى خاطري مشاهد مناقضة لذلك الموقف الحضاري الذي جاء من مغرب العالم العربي وتمنيت أن يستفيد الوافدون الجدد على السلطة في «دول الربيع» أو من ما زال متشبثا بها أو طامعا فيها، من التجربة التونسية الفريدة حقا، علها تجد صداها في تصرفاتهم وقراراتهم، حيث ما زالت أغلبها تنزف دماء وتم تدمير اقتصاداتها وانشغلت بملاحقة القتلة والإرهابيين والحروب الإعلامية مع الأنظمة التي سبقتها، وتناست توفير الأمن والخدمات الأساسية للمواطنين.
تونس هي البلد الجمهوري الوحيد في العالم العربي الذي كان ثوريو الستينات يصفون حاكمه الراحل العظيم بأنه رجعي و«عميل الاستعمار»، لكنه كان الأكثر حبا لشعبه أولا ولمحيطه المغاربي والعربي.. فلم يقحمه في مغامرات «ثورية» وانتهج خطا سياسيا متشددا وقاسيا في الداخل، لكنه بالمقابل انتهج أسلوبا اجتماعيا منفتحا وركز على التعليم وانخراط المرأة في الشأن العام ووضع لبنات اقتصاد متوازن في بلد محدود الموارد الطبيعية وتمكن من الحفاظ على الأمن الداخلي رغم القسوة وعدم التساهل تجاه معارضيه. وكان فعله الأكثر تميزا هو الإبقاء على الجيش على هامش العمل السياسي.
ضبط بورقيبة إيقاع تصرفات الجيش وألزمه بالحيدة وهو ما ميز تونس عما عداها من «دول الربيع» التي كان يقف العسكريون على رأس أنظمتها، وأنا لا أقلل من دور الجيوش في حياة الأوطان ولكني شخصيا لا أؤيد هذا التماهي الذي يصل إلى حد إقحام الجيش في قضايا ليس من مصلحته أن ينغمس فيها. وحدث هذا في كل الجمهوريات «الثورية»، إلى أن انعتقت ليبيا والعراق من هذا التصنيف لكنهما دخلا في أتون حروب داخلية، ليس بسبب ابتعاد الجيش وإنما لأن عقيدة الجيشين كانت في السابق الولاء للحاكم لا للوطن والدستور.
حوّل الحكام السابقون في «دول الربيع» المؤسستين العسكرية والأمنية إلى أدوات لحمايتهم وأنظمتهم وأسرهم، وأطلقوا يدهما في الحياة العامة وانغمستا في النشاط الاقتصادي ودورات الفساد المنظور وغير المنظور واقتحام كل المؤسسات المدنية، مما أربك الأوضاع وهمش بنى الدولة الأساسية، بل وصل الحال في ليبيا إلى حد إلغائهما واستبدال لجان شعبية بهما كان أغلب من يديرونها من عديمي الخبرة والعلم. في الحالة العراقية استمر مجلس قيادة الثورة إلى أن سقط صدام صريعا وذابت مؤسساته كاملة بفعل الضربات المتلاحقة وتسريح الجيش والأجهزة الأمنية.
لا بد من متابعة اللحظة التونسية بإعجاب شديد وبحسد المعجب لا الحاقد، ودراسة كيف تجاوز أبناء تونس الفروقات السياسية والقانونية والخلفية الاجتماعية والقناعات، واستطاعوا التوصل إلى صيغة عقد اجتماعي يسمح بتوقع مستقبل أكثر حرية ووئاما داخليا، وحسنا فعل «إخوان» تونس أن قبلوا بما يضمن للجميع العيش من دون خوف ولا ريبة ولا تهميش.
نتجت الوثيقة عن جهد ووعي سياسي راق بذل في الداخل ولم يتح فرصة لتدخل قوى أجنبية ولم يطلب أحد منها إلا تقديم تجارب ماضية.. لم يستنجد التونسيون بالأمم المتحدة لتدير حواراتهم ومداولاتهم.. لم يستقر مندوب أممي ليحدد مآلات وطنهم ورسم مستقبله، ولهذا كانت المحصلة عملا يوازن بين المصلحة العامة واستقرار أوضاع الوطن وبين احتياجات المواطنين وحرياتهم الشخصية بما يساهم في المزيد من الانسجام بين الثقافات ويعزز من الاستفادة من حضارات وتجارب الآخرين.
قد يكون من المبكر الحكم على بقية تجارب «الربيع» لكن ما نشاهده ونتابعه لا يشي عن قرب حدوث التحولات الإيجابية التي خرج الشباب من أجلها ونزفت دماؤهم في ساحات التغيير.. لربما كانت مصر هي الأقرب للخروج من هذا المأزق، فلديها من المؤسسات الراسخة على مدى عقود ما يؤهلها لتحقيق آمال شعبها وتجاوز حالة الاضطراب الأمني الذي تحدثه عناصر إرهابية هدفها عرقلة إصرار ورغبة أغلبية المصريين في استقرار أوضاع وطنهم والنهوض من كبوته التي تسبب بها اندفاع «الإخوان» للسيطرة على كل مفاصل البلاد واستبعاد بقية فئات المجتمع، وهو تصرف نمّ عن جشع ونهم وتعطش للسلطة، وهي حالة انتابت بعض الدول التي استطاعوا فيها الوصول إلى مواقع الحكم وبدأوا محاولات عزل القوى السياسية الأخرى وإحكام قبضتهم على المراكز المهمة التي تعنى بحياة المواطنين وأمنهم وعدالتهم.
«الربيع» لم تبدأ ظهور ثماره الإيجابية إلا في تونس التي خرجت بهذه الوثيقة المميزة، ولربما تمكن اليمنيون أيضا من محاكاة أشقائهم وإن كانت الظروف مختلفة ومستوى الوعي المجتمعي أقل، ولكن هنا يكمن السر: القيادة.. فهي ليست فقط مجرد مواقع يتبوأ سدتها ويتصارع عليها الحزبيون، ولكن بما يقدمونه من برامج ويعلنونه من طموحات لشعوبهم، والأهم هو الارتفاع فوق أحقاد وعقد الماضي.
قد يكون مجديا استلهام «مسيرة نيلسون مانديلا نحو الحرية» ليتعلموا منه كيف خرج من سجنه في جزيرة روبن بعد 27 سنة بإرادة القائد الحقيقي في تحقيق السلام لوطنه والهدوء النفسي والاجتماعي لشعبه، وكيف ألقى خلفه بالماضي بكل مآسيه وأحزانه.
المصدر: الشرق الأوسط