عندما كنت أخط السطور بيراعي، كنت أشعر بأنني أستمد منه قوة تجعلني لا أتعثر حين أقدم على خطوة ما، وأشعر بمتعة الانتصار في كل معركة أخوضها مع الفِكَر . . أما اليوم فقد تحولت قدرة القلم على مساندتي إلى مصدر ضعف وهزيمة لي . فكلما حاولت أن أمسك به شعرت بارتعاش في يدي حتى صرت أكرهه لأنه سيخط ما يدمي قلبي . لم أكن أتخيل أنني سأمسك بالقلم ذات يوم لأكتب به كلمات رثاء في من علمني كيف أستخدمه، ولأقول له عبره “وداعاً يا والدي” .
حزني أكبر بكثير من كلمات يخطها قلمي ويعبُر بها وديان الأسى باحثاً عنك في كل مكان، محاولاً تهدئة شعور بفراغ عظيم خلفته برحيلك . أحاول أن أعبر ولو بكلمات مقتضبة عن هذا الشعور الفظيع، فأسقط في بحر الفشل وكأنني فقدت القدرة على التعبير .
حاولت أن أبحث عن كلمات سافرت مع غيابك وكأنني أرفض في داخلي فكرة الغياب، فالحزن على فراق رجل مثلك يا والدي لا يمكن أن يختصر بكلمات . وحين صمت وأنا غارقة في بحر أحزاني، سمعت كلمات تخرج من أفواه من أتوا والتفوا حولي في محاولة لانتشالي من الغرق . . لقد جاؤوا يتحدثون عن رجل ليس مثل كل الرجال، رجل يكنون له كل احترام وتبجيل، البعض منهم التقوه مرة واحدة، والبعض الآخر مر في حياتهم فترك فيها أثراً لا يمحى وغير مجراها كله ببعض الكلمات الناصحات .
كنت أجول بناظري والغصة في حلقي قد أفقدتني القدرة على الكلام والتعبير، وكنت أسمع ممن فاضت أعينهم بالدموع قصصاً عنك يا أبي، عن رجل وطني، كريم حكيم ومحب للحياة . . لقد أتى محبوك يا والدي من مشرق البلاد ومن مغربها، وتحدثوا عنك بالعربية وبلغات كثيرة أخرى، جاؤوا حاملين كل واحد منهم حكاية، كلمة أو لحظة لقاء ستظل محفورة في ذاكرتهم إلى الأبد . حينها، شعرت يا والدي بأنني لم أفقدك وحدي، بل فقدك معي كل أولئك الناس، فقدك معي الوطن وفقدتك معي أمة بكاملها .
لقد شعرت يا والدي بالمواساة، فقد عرفت أنك موجود في قلب كل من عرفك، وأنك موجود في ضمير كل من لم تسنح له الظروف بأن يعرفك ومن لم تواته الفرصة للقائك .
في طفولتي كنت أسمعك يا أبي تتحدث عن الوحدة العربية، وكنت أراك وقد أضناك سهر الليالي أرقاً عليها وأنت تخشى انهيارها . . لقد غرست فينا يا أبي حب الوطن، وجعلتنا أقوياء به ليكون قوياً بنا . . كنت دائماً على اتصال مع من أرسوا أسس الاتحاد، وكنت معهم وكانوا معك في زمن تحدت فيه الإمارات العربية المتحدة كل المصاعب والمحن لتشكل وحدة متكاملة لا يزعزعها الزمن . . لقد كنت دائماً يا والدي تؤكد أهمية حماية البلاد من كل ضيم . . لقد امتلأ قلبك بحب الوطن واستمر كذلك إلى اليوم الذي توقف فيه عن الخفقان . . أتمنى يا والدي أن تعود لترى كم يحبك هذا الوطن الذي أحببته .
اليوم يبكيك العالم العربي كله وقد أعياه فقدك، فقد كنت يا أبي مناضلاً قوياً ومدافعاً حازماً وصوتاً قوياً هادراً . . كنت رجل الوطن الذي أعطى كيانه في سبيل وحدة البلاد وصون مستقبلها . . كنت ذلك الرجل الذي دافع وناضل ليكون للمرأة حظها الوافر من العلم، كنت ذلك الرجل الذي أعلى كلمة الحق وأرساها في زمن يغص بالكذب والباطل . . . كنت ذلك الوطني الذي لم يكن همه سوى رؤية العالم العربي موحداً، متماسكاً ومزدهراً .
كنت تحمل فوق كاهلك مسؤوليات جساماً، وعلى الرغم من ذلك كنت تسعى بدأب للمحافظة على أخلاقيات الصحافة التي طالما احترمتها وبجلتها . . وكنت يا والدي دائم الحضور بيننا، أباً حنوناً، عطوفاً متابعاً يلحظ أي تعبير على وجوهنا . . كنت بظلك الخفيف وحبك للدعابة تمنحنا الطمأنينة بوجودك دائماً معنا . . كنت تشعرنا بأنك ستكون حاضراً أبداً وأنك لن تغيب عنا . . كنا نستأنس بحديثك الذي تتخلله الدعابة والمرح، وكنا نشعر بأن اللحظات التي نمضيها معاً ونتحاور فيها أروع اللحظات عندك، وكنت تثبت من خلالها أهمية العائلة التي، كما كنت تقول، تأتي في أولوياتك . . فشكراً لك يا والدي . . شكراً لك إلى الأبد .
لقد أورثتنا حب العمل، ونحن نعاهدك أن “دار الخليج” سوف تستمر بالعطاء من بعدك، وأننا سوف نحمل المشعل ونسير به حتى أقاصي المعمورة، فليس لدينا ما نعبر به عن تمزق قلوبنا لرحيلك سوى المحافظة على ما زرعته فينا من أخلاق والمطالبة بتحقيق كل ما آمنت به .
إن حكمتك يا والدي ستظل نبراساً نستنير به، وستظل نصائحك ومهاراتك في عالم الإعلام والسياسة شعلة تضيء طريقاً رسمته لنا لنمضي فيه بكل ثقة وأمان .
وداعاً يا أبي . . وداعاً يا معلمي . . وداعاً يا أروع صديق . أبتاه . . لن تغيب أبداً، فأنت في قلوبنا وفي قلوب كل الناس الذين عرفوك بقلبك وروحك . . نحن جميعاً نشكرك يا والدي على كل ما قدمته لنا، وعلى كل ما تستمر في تزويدنا به روحياً بعد رحيلك . . ارقد بسلام يا أبي، وليتغمدك الله بواسع رحمته ويدخلك فسيح جناته .
المصدر: صحيفة الخليج