زياد الدريس
زياد الدريس
كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو

سؤال الهوية المتغيّر!

الأربعاء ١٣ فبراير ٢٠١٩

قلت أني: ظللت سنوات طويلة منشغلاً بسؤال: أيهما أكثر تهديداً للغة العربية، اللغات الأجنبية أم اللهجات العامية؟ وقبل أن اقترب من جواب أن اللغات الأجنبية أشد تهديداً، اكتشفت أن هناك تهديداً أكبر منهما، لم ننتبه له وهو يتمدد وينتشر سريعاً، أعني بذلك الاعتقاد الذي يتنامى عند الجيل الجديد خصوصاً بأن اللغة ليست وسيلة للتعبير عن الهُويّة بل هي وسيلة للتواصل فقط، (من مقالي الأسبوع الماضي). فكتب إليّ الصديق الدكتور خالد الرديعان، وهو أنثروبولوجي سعودي بارع، تعليقاً في «ملتقى أسبار» النخبوي على «واتساب»: «ممتاز يا أبا غسان، يبقى لك مقال آخر تشرح فيه ببساطة ماذا تعني الهوية؟ حتى يكتمل عقد المناقشة». خالد يعرف أكثر مني ماذا تعني الهوية، لكنه بطبعه الأكاديمي شغوف بطرح الأسئلة وتجديد التعريفات. يقول غوستاف لوبون: «الهيبة التي تصبح عرضة للنقاش، لا تعود هيبة»، وبودّي أن يسمح لي الصديق العزيز أن أسحب هذه المقولة أيضاً على نقاش الهوية، مع الفارق. كان الناس في ما مضى يسألون عن الهوية، وماذا تعني، وما حدودها وواجباتها وحقوقها؟ وكان المتعصبون للهويات يضيقون بمثل تلك الأسئلة (المتشككة!)، الآن تحوّل السؤال (عند البعض) من «ما هي الهوية» إلى «ولماذا الهوية؟!»، كعادتنا للأسف في المراوحة بين الإفراط والتفريط. وسأستعيد بعض ما قلته في مواضع سابقة من أن تهميش الهوية بالكلّية يؤدي إلى «تجمّد» الشعوب.. وتصعيدها…

الواحة الأولى في العالم

الأربعاء ١١ يوليو ٢٠١٨

استطاعت السعودية أن تضيف موقعاً تاريخياً جديداً لها ولذاكرة العالم في لائحة التراث العالمي التابعة لمنظمة الـ «يونيسكو»، وذلك بعد نجاحها في تسجيل (واحة الأحساء)، ضمن أعمال مؤتمر لجنة التراث العالمي المنعقد في البحرين الأسبوع الماضي. هذا النجاح الجديد يؤكد أننا سائرون بإذن الله في تحقيق هدف الرؤية السعودية 2030، التي نصت على رفع عدد المواقع السعودية في لائحة التراث العالمي إلى 10 مواقع، وها نحن الآن قد أصبح لدينا 5 مواقع ضمن مسيرة تسجيل المواقع السعودية في لائحة التراث العالمي، التي بدأت في عام 2008م بتسجيل موقع مدائن صالح، وفي 2010م تسجيل الدرعية القديمة، وفي 2014م تسجيل جدة التاريخية، وفي 2015م الرسوم الصخرية في حائل، وفي هذا العام 2018م تسجيل الأحساء. لكنّ دخول (واحة الأحساء) في لائحة التراث العالمي والإنساني في الـ «يونيسكو»، منحها تميزاً مختلفاً عما سواها، لأنها الواحة الأولى على مستوى العالم، التي تسجل في لائحة التراث العالمي، ولا يوجد في اللائحة العالمية أي واحة سبق تسجيلها من بين واحات العالم بأكملها، وهذا تفرد مستحق لواحة الأحساء ويحق لأهلها ولنا الفخر به، وهو ما سيفتح الباب واسعاً بالتأكيد إلى تسجيل واحات أخرى داخل العالم العربي، وبالأخص واحات شمال أفريقياً، وسائر واحات العالم. والأحساء ليست موقعاً تاريخياً مهجوراً ومعزولاً من أي تفاعل بشري راهن، بل هي واحة نابضة…

(القمة العربية الثقافية) هل ستصنع فارقاً؟!

الأربعاء ٢٣ مايو ٢٠١٨

«نرحب بدعوة المملكة العربية السعودية إقامة القمة العربية الثقافية، آملين بأن تساهم في دفع عجلة الثقافة والتنوير وإذكاء جذوة القيم العلمية والأخلاقية العربية الأصيلة للحاق بركب الثقافة الذي تخلفت عنه الأمة جراء الحروب والفتن والقلاقل». النص أعلاه توصية وردت ضمن البيان الختامي للقمة العربية التي عقدت في مدينة الظهران، منتصف نيسان (أبريل) المنصرم. في البدء، يسرني كمواطن سعودي أن الدعوة إلى القمة العربية الثقافية قد انطلقت من بلادي، وأرجو أن يكتمل فخري فتُعقد أيضاً في بلادي. المثقفون بالطبع تطايروا بتلك التوصية من دون غيرها وتداولوها فرحاً وأملاً، وحُقّ لهم ذلك، فهم يسمعون عن هذه القمة منذ سنوات، لكنهم كلما ظنوا أنها اقتربت منهم ابتعدت أكثر! مع إيماني بأهمية التفاؤل بأن تصنع هذه القمة الثقافية، إذا تحققت، شيئاً لتحريك جمود الثقافة العربية وخلخلة قوالبها التقليدية، إلا أني أنصح المثقفين بعدم الإفراط بالتفاؤل! الثقافة غير السياسة، فإذا كانت الثانية عملاً أبوياً (بطريركياً)، فإن صنع مسارات الثقافة يتم بأيدي الأبناء (شعبوياً). هذا لا ينفي دور (النخبة) في تحريف مسارات الثقافة وحياكة ملبوساتها، لكن آلية عمل نخبة الثقافة تختلف كثيراً عن آلية عمل نخبة السياسة، بسبب اختلاف تكوين (النخبة) في الإطارين أصلاً. *** في عام ٢٠١٣م كان لي شرف تمثيل منظمة اليونسكو في القمة العالمية للصناعة الثقافية في الصين. كان هدف الصينيين توجيه نتائج…

المتخصصون في الشتيمة

الأربعاء ٠٩ مايو ٢٠١٨

كتب غازي القصيبي إلى صديقه الأثير حمد القاضي رسالة خاصة (بخط يده) مليئة بالشجن والألم الذي لم يستطع (العملاق) كتمانه بعد أن فاض به، وهو الصبور الخبير طويل الباع والبال. وقد أحسن الصديق الأستاذ حمد القاضي في نشرها الآن بعد أن مضى على وفاة كاتبها الراحل الكبير قرابة عشرة أعوام. يقول (الوزير) غازي في رسالته إلى (الكاتب) حمد: «تقف شريحة من المجتمع، ليست للأسف بصغيرة، وشريحة من الإعلام ليست للأسف بصغيرة، موقف المتفرج، وموقف المتفرج يهون عند موقف الشامت متصيّد الأخطاء». وبعد عبارات مليئة بالألم يقول غازي: «أشعر أحياناً وكأنني أمشي على حبل في سيرك وتحتي جمهور يتوقع ويتمنى سقوطي في أي لحظة». ثم لاحقاً يختم غازي رسالته بذروة التشكّي، بما اشتكى به نبي الله محمد إلى ربه عز وجل يوم هُوجم وأوذي عليه الصلاة والسلام: «اللهم إني أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس. لم يخجل سيد البشر من قولها، فكيف أخجل أنا!». يتحدث القصيبي في رسالته تلك، وفي مواضع غيرها، عن وباء اجتماعي تعرّض له، ويتعرض له غيره، وإن كان هو ممن استُهدف كثيراً مقارنةً بغيره. ما الذي يدفع الناس، بعض الناس، للتخصص في شتم الآخرين، وتكريس وقتهم وقدراتهم ومشاعرهم للعمل في مهنة (الشماتة والشتيمة)، والبحث عن الزلّات والهفوات، واصطيادها وتضخيمها والاحتفال بها، بوصفها مُنجَزاً يحقّقه الشتّام…

هل ما زالت فلسطين القضية الأولى؟

الأربعاء ١٣ ديسمبر ٢٠١٧

أثار قرار الرئيس الأميركي ترامب، جعْل القدس عاصمة لإسرائيل، موجة غضب عارمة في الشارعَين العربي والإسلامي، بل وفي غيرهما. وهو أمر ليس بالجديد أمام كل قرار أميركي يخدش كرامة فلسطين وينحاز لإسرائيل، لكن الجديد في موجة الغضب هذه المرة أنها لم تكن موجهة من العرب إلى المسؤول الأميركي، بل من العرب إلى العرب، إذ انشغلوا عن لوم المذنب بالتلاوم في ما بينهم! تحوُّل اتجاهات الغضب وتبعثرها لم يأتيا هكذا من فراغ، ولم يكونا مفاجئين لمتابعي التطورات الأخيرة للخطاب الثقافي (الشعبي لا النخبوي) تجاه (القضية الأولى) تاريخياً، بل كانت لهما ممهّدات سابقة، ربما اعتمد ترامب عليها في عزمه على إعلان القرار المخيف للرؤساء السابقين له. بدأ التلاسن العربي عندما انطلق الفلسطينيون في إلقاء اللوم، في شأن قرار ترامب، على الدول العربية والحكومات العربية أكثر من لومهم الحكومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني المنقسم إلى فصائل متناحرة، بعضها يدين لإسرائيل بالولاء أكثر من ولائه لوطنه الفلسطيني! رَمْي الفلسطينيين اللوم عن كاهلهم إلى كاهل غيرهم ليس جديداً، فقد حدث كثيراً قبل ذلك، لكن هذه المرة يوجد متغيّر جديد أوقف عملية التغاضي عن الحيف الفلسطيني، إذ تعالى، كما أشرت مسبقاً، صوت ثقافي/ شعبي يتحفظ على أن فلسطين هي القضية الأولى له، أو حتى الثانية أو الثالثة. هذا التيار الجديد، إن صحّ وصفه بتيار، يسفّه أي قضية…

في بيتنا مُسِنّ

الأربعاء ٠٦ سبتمبر ٢٠١٧

كلما رأينا شخصاً مسنّاً، رجلاً أو امرأة، وقد بدأ يغزوه الخرف والهذيان تذكّرنا مرحلة (أرذل العمر) في حياة الإنسان التي وردت في الآية الكريمة: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً». التفسير الجاهز لدينا دوماً لمفهوم أرذل العمر هو العودة إلى عمر الطفل وعقله. هل عقل المسن - المخرّف هو حقاً مثل عقل الطفل، أم هو أفضل أم أسوأ؟ يشترك عقل الطفل وعقل المخرّف في تواضع قدراتهما على معرفة الأشياء وتفسيرها وطريقة استخدامها. قد يبدو للوهلة الأولى أن عقل المسن أقدر وأفهم من عقل الطفل بحكم ما بقي في ذاكرته من تجارب الحياة. هذا صحيح حتى الوصول إلى نقطة التقاء بين القدرتين العقليتين، تنطلق بعدها عقلية الطفل في التفوق. ما ننساه عند التشبيه بين عقل الطفل الجاهل وعقل المسن المخرّف هو إلى أين تسير عقلية كل واحدٍ منهما؟ في عقل الطفل، تزداد الخلايا العصبية كل يوم نمواً وتطوراً، بالتالي تعلّماً واكتساباً للمعرفة، فيومه أفضل من أمسه، وغده أفضل من يومه، فعقله وإدراكه وفهمه الأوامر والنواهي تزداد تقبّلاً وتطوراً. في عقل المسن، يحدث العكس تماماً، إذ تزداد الخلايا العصبية ضموراً وتلفاً يوماً بعد يوم، فهو لا يغدو فقط عاجزاً عن تذكّر المهارات الحياتية التي كان يتقنها، بل ويصبح أيضاً غير قادر…

عاصمة التعددية

الأربعاء ٢٢ مارس ٢٠١٧

ذهنية التخلف هي إحدى التمثّلات لغياب ذهنية التعدد والتنوع، ولسيطرة الذهنية الأحادية، الأحادية في الرأي الديني، والأحادية في الموقف الفكري، والأحادية في القرار السياسي. (الأحادية) منظومة سلوكية متكاملة، لا نستطيع نزعها من مجال والسماح لها بالبقاء في مجالات أخرى. نهضة الغرب قامت على أكتاف التعددية ونبذ الأحادية، منذ أن فكّك الآباء المؤسسون للنهضة، في القرن السادس عشر وما تلاه، أعمدة الأحادية وبنوا عوضاً عنها أعمدة التعددية التي قام عليها بناء الغرب الحديث. الثقافة العربية والإسلامية الحديثة لم تَحظَ للأسف حتى الآن بآباء مؤسسين كالذين حظيت بهم الثقافة الغربية، أو كالذين حظيت بهم الثقافة العربية والإسلامية في مجدها السابق، الذي انطلق من بغداد وانتشر من قرطبة غرباً وسمرقند شرقاً. لا يمكننا أن نُغفل محاولات النهضة التي جرت في القرن التاسع عشر من لدن مجموعة من المصلحين العرب، لكنهم لم يحققوا حلمهم وحلمنا بأن يكونوا (آباء مؤسسين) لنهضة عربية إسلامية حديثة، إما لخلل ونقص في أطروحاتهم الإصلاحية، أو لعدم ملاءمة الظروف السياسية حينذاك (مع سطوة الاستعمار) لتحقيق طموحاتهم النهضوية! سجال التصنيفات الحزبية بين النخب العربية الآن هو نتاج طبيعي لأحادية التفكير والرأي. ويتم هذا وفق آلية بسيطة وواضحة: فإذا كان رأيك لا يوافقني فإني عوضاً عن مناقشتك حوله أو التعايش معه كرأي آخر، أقوم بحيلة تصنيفك، وهو ما سيجلب لي مناصرين لخوض…

حكاية التكريم

الأربعاء ٠١ مارس ٢٠١٧

قبل ٢٥ عاماً، علمتُ أن فريقاً طبياً من روسيا بقيادة الدكتور أليزاروف مؤسس الثورة الحديثة في جراحة العظام، سيزور مستشفى الملك فهد التخصصي بمدينة بريدة السعودية. ذهبت إلى هناك لمعالجة مشكلة الرِّجل المزمنة معي، وبقيتُ تحت مبضع (بل منشار) الجرّاح ساعات، ثم التنويم في المستشفى لشهور تمدّدتْ. تفضّل عليّ الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز، أمير الرياض حالياً وقد كان أمير القصيم حينذاك، بزيارة استشفائية كان لكلماته اللطيفة فيها أثر كبير في رفع معنوياتي (المكسورة)! كان للنقاشات التي تداولتُها مع الفريق العلاجي الروسي خلال السنة إلا أسبوعين التي أمضيتها في المستشفى أثر في بعض التحوّلات الفكرية التي تجاوزت عظامي إلى أعصابي! بعد خروجي من المستشفى بمدة وجيزة، كان قراري بالتحول من اختصاصي في المجال العلمي الذي درسته في كلية العلوم بجامعة الملك سعود بالرياض ومارست العمل فيه لعشر سنوات، إلى حقل الدراسات الإنسانية، حيث ذهبت إلى روسيا والتحقت بجامعة موسكو الحكومية وأنجزت فيها خلال ثماني سنوات (بصفة غير متفرغ) بحثَي الماجستير والدكتوراه في تخصص سوسيولوجيا الثقافة. العَشْرية الثانية من حياتي الوظيفية أمضيتها في مجلة «المعرفة»، حيث خوَّلتْ لي رئاسة تحرير تلك المجلة التربوية الثقافية الاقتراب أكثر فأكثر نحو حقلي العملي الجديد. كان هذا سبباً في ترشيحي للتشرف بتمثيل بلادي لدى منظمة «اليونسكو» طوال عشر سنوات، فكانت هذه العشرية الثالثة لي…

من يجرؤ على (السلام)؟

الأربعاء ٢٨ ديسمبر ٢٠١٦

كان السؤال الشهير في عقودٍ مضت: من يجرؤ على الكلام؟ عندما اشتعل العالم بالحروب في شرقه وغربه، و «الحرب أولّها كلامُ»، أصبحنا نبحث عمن يملك الشجاعة، لا في الكلام، بل في الدعوة إلى السلام، من دون أن يُتهم الداعي إلى ذلك بالتخذيل أو الخضوع والانكسار لسلطة القوي أو التواطؤ مع المعتدي والاستسلام له. ليس خوض القتال وحده الذي يحتاج إلى شجاعة، بل حتى خوض السلام يحتاج إلى ذلك، وربما أكثر. إذ نخوض القتال عادةً مع آخرين يشاطروننا همّ الشجاعة، لكننا نخوض السلام وحدنا. الشيخ عبدالله بن بيّة يخوض (معركة سلام) في أحلك الظروف القتالية التي تشهدها منطقتنا الآن. يقود مبادرة تلو أخرى، يحاول ويجرّب طرقاً، ويبدّل طرائقه وأدواته، بغية الوصول إلى هدف واحد محدد هو (تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة)، هذا المنتدى الذي بات منصة دولية للحديث عن سبل تحقيق السلم، ليس في المجتمعات العربية أو المسلمة فقط، كما قد يبدو من اسم المنتدى، بل لكل مجتمع إنساني يعاني من خلل في السِّلْم الاجتماعي. يحظى العلاّمة بن بيّة بخصال فريدة تخوّله ليكون الأقدر على خوض هذه المغامرة، والأوفر حظاً للنجاح فيها، فهو عالِم ديني مستقل وغير محسوب على طيف حزبي أو فكري معين. كما أنه ينتمي إلى دولة نائية، جغرافياً، لكن أيضاً نائية فكرياً وسياسياً عن خصومات وتناحرات دول المشرق…

الدول الكوبرا!

الأربعاء ٠٥ أكتوبر ٢٠١٦

أشد الثعابين سميةً وفتكاً هي أكثرها رشاقة وتمايلاً وجمالاً. يعزف الحاوي «المخادع» مزماره أمام (الكوبرا)، فيتراقص الثعبان الغليظ بكل رشاقة وخفة أمام الجمهور المنبهر بأدائه الأخاذ، انبهاراً يكاد يُنسيه أن سموم هذا النوع من الثعابين (اللعوب) ربما يكون أسرع أنواع السموم قتلاً. ليست كل أنواع الكوبرا تقتل ضحاياها بعضةٍ من أنيابها السامة، هناك نوع من الكوبرا اشتُهر بنفثه السم من بُعد على عيون فريسته، بحيث تفقد الضحية قدرتها على البصر والرؤية فتتخبط في طريق الهروب حتى تقع بين يدي القاتل الشرس. قدرة (الكوبرا) على الخروج من «زنبيلها» والتطاول أمام الجميع من خلال إمكانية رقبتها على (التمدد) كثيراً كثيراً، هو الذي يمنحها مَلَكة إبهار الجمهور بالرقص وإخافة الناس باللدغ... في آنٍ واحد. بين مهارتَيْ الرقص والقتل، تُراوح الدول الكبرى في علاقاتها مع الدول الوسطى والصغرى في هذا العالم. تتراقص الدول الكبرى أمام العالم بقيم العدل والحرية والمساواة، كما تُقدم رقصات «خاصة» بحقوق الإنسان والأقليات والمرأة والطفل والمعاقين والمهاجرين واللاجئين، وتتمايل كثيراً وتمد رقبتها طويلاً خصوصاً عندما يعزف الحاوي معزوفة (السلام). وحين ينتهي العرض المسرحي، أحياناً حتى قبل أن ينتهي، تتحول هذه الرقصات إلى لدغات سامة وعضات قاتلة، سواءً كان هذا مع وجود المزمار أو من دونه. تتنادى الدول الكبرى، في كل محفل دولي، إلى شجب التطرف والعنف الذي يمارسه أفراد أو…

الحياة – لنخلّص العالم من الخمينية

الأربعاء ٢١ سبتمبر ٢٠١٦

يكاد الوزير الإيراني جواد ظريف يتحوّل من وزير خارجية إلى كاتب عمود أسبوعي. إذ باتت مقالاته في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية تحظى باهتمام يفوق بكثير الاهتمام الذي تلقاه تصريحاته أمام الميكروفونات عقب الاجتماعات السياسية المألوفة مع نظرائه. قد يعطي هذا ملمحاً عن القدرة (الذاتية) للسيد ظريف في التعبير عن أفكاره وآرائه «من دون تحضير مسبق». الأمر الذي تفوّق عليه فيه نظيره السعودي عادل الجبير الذي استطاع عبر تصريحات شفوية مباشرة «غير مسبقة الصنع» أن يكسب إعجاب كثير من المراقبين، وأن تحظى مقاطع تعليقاته المُحْكمة والهادئة بمشاهدات عالية على «يوتيوب». هذا التفوق في الحضور الإعلامي الملفت للوزير الجبير، جعل صحيفة «وطن أمروز» الإيرانية تعقد مقارنة غاضبة بين أداء وزير الخارجية الإيراني وأداء وزير الخارجية السعودي. فهاجمت الصحيفة الإيرانية أداء وزيرها، واعتبرت أن خطابه الديبلوماسي ما زال ضعيفاً وهزيلاً أمام الجبير. ونقلاً عن مصادر عربية مترجِمة، قالت الصحيفة: «نحن لا نريد ولا ننتظر من جواد ظريف أن تكون له مواقف جريئة وقوية كمواقف وتصريحات الجبير تجاه إيران، ولكن أيضاً لا نقبل ولن نوافق على هذه المواقف الهزلية التي تتخذها الحكومة الإيرانية في صراعنا مع السعوديين في سورية». وتبيّن الغضب العارم للصحيفة الإيرانية حين ختمت حديثها بمقارنة بين تصريحات الجبير وتصريحات ظريف، فوصفت تصريحات الأول بأنها تشبه الأناشيد والأشعار العسكرية التي ترفع من…

مؤتمر إسلامي لتقسيم المسلمين!

الأربعاء ٣١ أغسطس ٢٠١٦

بتنا نخجل من ترديد القول أن أعداء الإسلام يسعون لتمزيق المسلمين، ليس لأنهم لا يسعون، ولكن لأنه يوجد من أهل الإسلام من يسعى لتمزيق المسلمين أكثر من سعي الأعداء! في العام ٢٠١٤ أصدرتُ كتاباً تحذيرياً عما ستؤول إليه مجتمعاتنا وأوطاننا من تشظيّات وانقسامات خلال السنوات القليلة المقبلة، فوق ما كانت عليه حالنا خلال الخمسين سنة الماضية، وجعلتُ الكتاب تحت عنوان: (حروب الهُويّات الصغرى). ويؤسفني أن التحذير الاستباقي الذي أطلقه الكتاب قد بدأ يقع ويتحقق بالفعل، فحروب الهويّات في منطقتنا يتوالى اشتعالها يوماً بعد آخر، من دون أن نتحرك لإخماد هذه الحرائق قبل تعمّمها، بل ربما تَحرّك بعضنا للمساهمة في ازدياد اشتعالها. وقد جاء كتابي ذلك تفصيلاً لمقالتي التي نشرتها في العام ٢٠١٢ تحت عنوان: («السلفية»... هل هذا وقتها؟)، والتي كان لها صدىً كبير حينذاك، ما زلت أذوق طعمه الحلو والمرّ حتى اليوم! كتبتُ ذلك المقال استياءً من عقد إحدى الجامعات السعودية مؤتمراً جعلتْ عنوانه: (السلفية... منهج شرعي ومطلب وطني)، ومما قلت في ذلك المقال النقدي: «إن الوقوع في شَرَك التحوّل من الدوائر الكبرى إلى الدوائر الصغرى هو فخّ لا نهائي، فداخل كل دائرة صغرى هناك دوائر أصغر منها، وهكذا يستمر التشظّي والتضاؤل»، و»إن النبرة الحزبية الخفيّة أو المستترة في نقاشات وتوصيات الندوة لا تنبئ عن الهدف النبيل بتصفية الإسلام وتنقيته،…