مفكر إسلامي
خاص لـ هات بوست :
يتناقل المسلمون المؤمنون برسالة محمد (ص) حديث “يأتي زمان على أمتي فيه القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر”، والناظر بحالنا اليوم لا يحتاج نفاذ البصيرة لرؤية صحة هذا القول، فيما يخص “أمته” عليه الصلاة والسلام، بغض النظر عن مدى مطابقة الحديث لشروط الجرح والتعديل والعنعنة، وعن كونه لا يعلم الغيب ولم يدع ذلك.
لكن ما يثير التساؤال ويبقى مدعاة للتوقف والبحث هو ماهية هذا الدين المقصود، وهو الإسلام بلا شك، إذ ثمة ملابسات عدة تدخل في المشهد العام، فإسلام التنزيل الحكيم مختلف تماماً عن تلك الكرة الثلجية التي تدحرجت طويلاً على أرضية من الأعراف والتقاليد فعلق بها من الشوائب ما جعلها تفقد خواصها وتصبح ديناً آخر هجين لا يشبه الأصل بل هو مسخ مشوه، يخاف منه الغرباء، ويألفه الأقرباء لأنهم وجدوه في حياتهم كما حياة آبائهم فاعتادوه، وتماهوا معه حتى أصبحوا يدافعوا عن شوائبه، بدل إزالتها.
فالثقافة الإسلامية الرائجة تحكم غالباً على الشكل دون المضمون، فيقيّم تدين المجتمع وفق لباس نسائه، ما بين نقاب يرى فيه البعض من ركائز الإسلام، وبين غطاء رأس بالنسبة للبعض الآخر يضاهي في أهميته ارتكاب الفاحشة، كنكاح المحارم مثلاً، بينما لا ترقى شهادة الزور في أحيان كثيرة لتصل تلك الأهمية، وقد ترى بعض الجماعات أن للرجل لباس شرعي يحتم عليه عدم ارتداء البنطال، ويتناسب طول ثوبه عكساً (لحد معين) مع درجة التدين المفترض، فيصبح الله تعالى بهذا الشكل شرطياً (حاشاه) للرقابة على اللباس اليومي.
وباعتبار أن الشرف ينحصر في الأنثى، يصبح تزويج القاصرات والزواج منهن جزءاً من الدين، وتصبح جريمة “الشرف” كذلك، حتى أنها تدخل في قناعات الكثيرين بوصفها تطبيق لما جاء في الإسلام، ولا غرابة في ذلك حيث تقتنع الأنثى بأن الذكر له القوامة عليها حتى لو قتلها، ومن باب أولى يحق له ضربها طبعاً.
كذلك فإن الكثير من التفاصيل في قوانين الأحوال الشخصية تتعلق بالحضانة والوصاية على الأولاد، تدخل ضمن “تطبيق الشريعة”، حيث تقبل هذه الشريعة المطاطة كل ما يتناسب مع المجتمعات الذكورية المهيمنة، وتشمل كل أعراف الأزمان الماضية وقد دخلت في العقل الجمعي على أنها دين، وهي لا تمت له بصلة.
وفي منحى آخر يشكل عدد المصلين في المساجد في يوم الجمعة مؤشر على تدين المجتمع، فكلما ازداد العدد كلما كان هذا المجتمع “متدينا” أكثر، دون الأخذ بالاعتبار مدى الفقر المنتشر فيه، ناهيك عن الغش والفساد وتوابعهما، أما الصلاة في جوهرها كصلة مع الله فتكاد تختفي، ولنا في كثرة الأدعية والصيغ الجاهزة المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي مؤشر على إهمال اللب لصالح القشور.
أما في ثقافة التعددية وقبول الآخر، فالمجتمعات المتدينة هي التي لا تقبل الاختلاف، فإما أن تكون على شاكلتي أو أن لن أقبل بك، وقد نتعايش ونبدو غاية في الانسجام، لكن الطائفية والقبلية وكل عوامل الانقسام تطفو على السطح عند أول امتحان، علماً أن وحدانية الله هي رأس الإسلام، وعدم الشرك به يتضمن تلقائياً قبول التعدد فيما سواه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود 118)، والأنكى من ذلك أننا نستهلك منتجات الغرب ونهاجر إليهونتعلم في جامعاته، ثم ننعت أهله بالكفر والشرك، ونضمر لهم الحقد والكراهية.
وفي الآبائية وعدم التطور حدث ولا حرج، فنحن “المسلمين” عصيون على التغير، ثابتون على ما وجدنا عليه آباءنا ولا نرى غضاضة في ذلك، ولا حاجة، ولا يضيرنا ما وصلت إليه أحوالنا طالما أن كل فرد منا يعيش سعيداً، ولا يريد ما يشكك بعقيدته فهو يؤدي الشعائر ولا يؤذي جاره ولا يسرق أموال الدولة، وبالتالي دعه مرتاحاً يبحث عن كفاف يومه، حتى إذا ما ظهرت داعش أو مثيلاتها اكفهر وغضب وأعلن أنها لا تمثل الإسلام، وتغاضى عما تبثه خطب الجمعة ومناهج المدارس في عقله وعقل غيره مما لا يتناقض مع ما فعلته داعش، ولا يحيد عنه قيد أنملة.
وبالطبع هذا غيض من فيض،يصب في كونالقابض من أمة محمد على الإسلام كالقابض على الجمر، حيث الإسلام هو ما يختصره قوله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33) وفيه {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء 86) و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنا} (النساء 94) وفيه المرأة صنو الرجل، لا هي حلوى ولا هو ذباب، حسابها في الآخرة كحسابه، وفيه الناس جميعاً متساوون تميزهم تقوى الله، والشعائر علاقة خاصة بين الإنسان وربه، يتقرب بها إليه لكن لا يقيم على أساسها.
فهل يمكننا مراجعة عقولنا والتوقف قليلاً على ما علق بها باسم الدين، وتنقيتها قدر الإمكان لنميز الغث من السمين، فنعامل الناس بالحسنى، ولعلنا نسنتثمر وقتنا بالتفكر في الوجود كما دعانا التنزيل الحكيم، عسانا نساهم لو قليلاً في تقدم الإنسانية ودفعها إلى الأمام.