مفكر عربي يقيم في باريس
خصصت مجلة «التاريخ» الفرنسية الأنيقة المصورة، التي يكتب فيها كبار أساتذة الجامعة الفرنسية، عددها الأخير لهذا الموضوع. وبالتالي فالعنوان ليس مني، ولكنه جذبني ودفعني الفضول إلى تصفح العدد والاطلاع على تاريخ ألمانيا منذ بداية الإصلاح الديني وحتى اليوم. لا أعرف لماذا يخطر على بالي أحيانا إقامة المقارنة بين الأمة الألمانية والأمة العربية. يرى بعض المؤرخين أنك لو طرحت هذا السؤال على الألمان: من أعظم شخصية في تاريخكم؟ لأجاب البعض مارتن لوثر. ولكن البعض الآخر قد يقول: غوته، أو بسمارك، أو كانط، أو هيغل… الخ.. وعموما فإن التاريخ الألماني مليء بالعباقرة. ولكن لو سألته ما أعظم كارثة في تاريخكم؟ لأجاب من دون أدنى تردد: هتلر والنازية. ولكن حتى نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف العشرين تقريبا كان سيجيب: أكبر كارثة في تاريخنا هي الحرب الطائفية المدمرة المشهورة باسم حرب الثلاثين عاما (1618 – 1648). بل والبعض يعدها أخطر من قصة هتلر. لماذا؟ لأن ألمانيا دمرت بالمعنى الحرفي للكلمة بسبب حرب أهلية داخلية لا حرب خارجية على عكس ما حصل إبان الحرب العالمية الثانية. وهذه الحرب جرت بين المذهبين الأساسيين في البلاد: الكاثوليكي البابوي، والبروتستانتي اللوثري. فعلى المستوى الديموغرافي أدت هذه الحرب الطائفية الهائجة إلى انخفاض عدد سكان ألمانيا بنسبة 40 في المائة، أي من 17 مليون نسمة إلى 10 ملايين. ولكن هذه الخسارة الضخمة ناتجة في الغالب عن المجاعات والأوبئة التي ترافق الحروب الأهلية أكثر مما هي ناتجة عن المعارك ذاتها. أما عن الدمار الاقتصادي فحدث ولا حرج. ولكن الأخطر كما يقول المؤرخون هو النتائج السياسية لهذه الحرب المذهبية. فقد أدت إلى تقسيم ألمانيا وتفتيتها إلى عدة دول طائفية إما بروتستانتية وإما كاثوليكية. وهذا ما يتهدد المشرق العربي حاليا. ولذلك تأخرت الوحدة الألمانية كثيرا بالقياس إلى الوحدة الفرنسية؛ فقد وجد القادة الألمان صعوبة كبيرة في تجاوز الانشقاق المذهبي الراسخ في النفوس. ومعلوم أن كلا الطرفين كان يخلع على حربه طابع القداسة الدينية، فكل مذهب كان يتهم أتباع المذهب الآخر بأنهم كفار خارجون على المسيحية الحقة والطريق المستقيم. بل وكانوا يعتقدون أنه حصل تدخل إلهي لصالحهم أثناء الحرب، فالله معنا، يقول الكاثوليكي، وليس مع الهراطقة. فيرد عليه البروتستانتي بالصاع صاعين ويقول لا، الله معنا نحن، وليس معكم أيها الرجعيون البابويون الفاسدون.. وكل طرف كان يعد نفسه من الأطهار والآخرين من الأنجاس.
كيف استطاعت ألمانيا تجاوز هذا الانقسام الطائفي الذي انتشر في كل أنحائها وضلوعها كالسرطان؟ عن طريق ظهور تيار فكري ثالث هو تيار الأنوار الدينية والفلسفية (شليرماشير وهيغل). فوحدتها السياسية ما كانت ممكنة قبله وإنما مباشرة بعده. فهو الذي فكك العصبيات الطائفية في كلتا الجهتين وقدم تأويلا جديدا وواسعا مقنعا للدين. لولا ذلك لظلت ألمانيا مقسمة حتى اليوم. وبالتالي فالفضل في ذلك يعود إلى فلاسفة كبار من أمثال لايبنتز وكانط وفيخته وشيلنغ وهيغل وغوته وعشرات آخرين. حقا أن المفكرين الكبار هم «أطباء حضارات» كما يقول نيتشه. هم وحدهم القادرون على النزول إلى عمق العمق وتشخيص المرض العضال الذي ينخر في أحشاء الأمة. كل ما عدا ذلك ثرثرات. فهؤلاء الفلاسفة العظام هم الذين دمروا النظام القديم للفكر (أي النظام الطائفي الراسخ الجذور في العقلية الشعبية) وأحلوا محله نظاما جديدا رحبا يتسع بأحضانه للجميع. من هذه الناحية فإن الحروب الطائفية التي أنهكت ألمانيا وهدّتها هدا كانت إيجابية. أو قل هنا يكمن «مكر العقل» بالمعنى الهيغلي للكلمة. فالانتصار على الفكر الطائفي كان مستحيلا لولا المجازر الدموية المرعبة التي أحدثها الأصوليون. أكاد أقول شكرا لـ«داعش»! وأنا أعتذر ألف مرة عما أقول. ولكن كيف يمكن أن تقنع المثقفين المحافظين في العالم العربي أن تفكيك الفكر الأصولي التكفيري أصبح ضروريا؟ حتى بعد «داعش» لا يقتنعون! كيف يمكن أن تقنع الحركيين السياسيين السطحيين الذين لا يرون أبعد من أنوفهم أن الحل الفكري يسبق الحل السياسي ويمهد له الطريق. وهذا الحل غير موجود حتى الآن. أتحدى أي مثقف عربي أن يشرح لي المشكلة الطائفية أو المذهبية بشكل أركيولوجي عميق يذهب إلى أصول الأشياء ولا يكتفي بالكلام المستهلك الرخيص. مشكلة التكفير مثلا لها مشروعية هائلة تضرب بجذورها في أعماق تاريخنا. والداعشي عندما يقتل جزافا مقتنع تماما بأنه ينفذ فتاوى دينية ويتقرب بذلك إلى الله تعالى! هذه الفتاوى موجودة في الكتب الصفراء ولكن لا أحد يتجرأ على مساءلتها ناهيك عن دحضها. وبالتالي فالقصة ليست مزحة ولا كلاما يلقى على عواهنه وإنما يعتقد بصحتها ملايين الملايين. فلاسفة الأنوار فككوا هذه الفتاوى التكفيرية في جهة المسيحية وأقنعوا الجماهير تدريجيا بالتخلي عنها. ولكن لولا أنهم استطاعوا بلورة تفسير آخر للدين، لولا أنهم عقلنوه وكبحوا جماحه، لولا أنهم كشفوا عن مخاطره إذا ما أطلق له عنان الغلو، لما استطاعوا كسب المعركة الكبرى. بعد أن خسر الأصوليون الطائفيون المعركة على المستوى الفكري أصبح توحيد ألمانيا شيئا ممكنا. ولهذا السبب فإن بسمارك لم يجئ قبل كانط وإنما بعده بنصف قرن على الأقل. التغيير الفكري إذن هو الأول وبعدئذ يجيء التغيير السياسي كتحصيل حاصل. ويزعم كاتب هذه السطور أن الربيع الفكري لم يحصل بعد في العالم العربي. وبالتالي «فلا ربيع سياسي ولا من يحزنون».
أخيرا في هذه اللحظات الدقيقة بالذات أود أن أوجه تحية خاصة إلى الشعب الكردي البطل الذي يدافع مستميتا عن كوباني الشهيدة في وجه الهمجية الظلامية السوداء. إنه لا يدافع عن نفسه فقط وإنما عنا أيضا، عن شيء يتجاوزنا جميعا والذي لا معنى لأي حياة من دونه: مبدأ الحرية والكرامة الإنسانية والإيمان المستنير على وجه هذه الأرض.
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=791052
الشرق الأوسط