كاتب وأكاديمي سعودي
صمم قميصك على طريقتك ! عطرك على كيفك ! البيتزا الخاصة بك ! عصيرك على مزاجك ! وغيرها الكثير من اللوحات الدعائية لأنشطة تجارية تحاول جذب الزبون من خلال منحه الحق والأولوية ، لا من خلال توفير خياراته المفضلة وحسب ، بل ومنحه الحق كذلك في تصميم تلك الخيارات و المشاركة في انتاجها بنفسه أيضاً . “لولا اختلاف الأذواق لبارت السلعة” ، هذه الحقيقة ربما بدأت تتلاشى ، الأذواق اليوم هي التي تصنع السلعة ، وما ينطبق على السلع التجارية يمكن أن ينسحب على الناتج الفكري والفني والثقافي، المتلقي اليوم لم يعد مجبُراً لتلقف اختيارات يفرضها عليه غيره ، بعد أن كان المنتجون والمخرجون والأدباء والكتاب والفنانون يبذلون جهداً ووقتاً لإرضاء جماهيرهم المتعطشة واستقراء ميول تلك الجماهير ، تبدلت الأدوار و المتلقي اليوم هو القادر على تصميم الفيديو الخاص به ، مزج الموسيقى التي تروق له ، إخراج الفيلم القصير الذي يعكس رؤاه وتوجهاته ، سواءً الكتابة الحرة والنشر ، أو التصوير ومعالجة الصور ، أو الدبلجة والترجمة ، كلها خيارات تتيحها ببساطة التقنية الحديثة ويستطيع الاشخاص العاديون التعامل معها بقليل من الاهتمام و الممارسة.
لكن ومن زاوية أخرى فإن تلك الطفرة الهائلة في منح حق الاختيار للمتلقي وعلى الرغم إيجابيتها إلا أنها بدأت أيضاً في فرض واقعٍ جديد، فما كنا بصدده بالأمس من حدود صارمة لحقوق الملكية الفكرية والحدود القانونية للنشر والتوزيع هي أمور لم تعد قائمة وحاضرة بالماهية ذاتها اليوم ، المستخدم البسيط اليوم يدمج ماراق له من صور ، يضيف إليها ماشاء من مقاطع صوتية ، يدون ويعلق عليها بكل أريحية، ثم ينشرها في ثوانٍ “بالمجان” عبر الوسائط الرقمية ! كل ذلك يتم دون معرفة أصحاب الحقوق والنسخ الأصلية و الملكية للمواد “الخام” التي تمت الاستعانة بها من قبل صاحبنا ! المستخدم البسيط يمكنه اليوم إطلاق قناته اليوتيوبية ، أو الشروع في بث برامجه عبر إذاعته الخاصة من خلال المواقع الالكترونية المجانية التي لا يكلف عناء التسجيل فيها سوى بضع دقائق.
إن الفكرة كما تبدو لي هي تحرر العمل الإبداعي من حيز الاحتكار والرعاية المؤسسية، إلى فضاء الحرية والمسؤولية الفردية . ومكمن الخطورة هنا هو خروج الأمور عن السيطرة إلى الحد الذي قد لا يجد فيه أصحاب الإبداع الحقيقي والأعمال الأصيلة قنوات تحميهم وتضمن لهم حقوقهم ، وهذا ما بدأت بوادره تتكشف يوماً بعد يوم ، ثمة نقطة أخيرة لا تقل خطورة عن سابقتها وتتمثل في ذلك السيل الجارف من أعمال التشويه والتخريب الفكري و الثقافي التي يعمد إلى إنتاجها بعض المهووسين بالانتشار والشهرة على حساب الجودة و الجدوى، أعمال خواء لكنها تجد لها صدىً وتنتشر انتشار النار في الهشيم ، تساؤلان جديدان جديران بالطرح : تُرى هل تلاشى المبدع الحقيقي إلى الأبد ؟ أم هي موجة عارمة ستأخذُ مداها حقبةً قبل أن تعود الأمور إلى نصابها الصحيح ؟
خاص لـ “الهتلان بوست”