مفكر إسلامي
خاص لـ هات بوست:
فتح الرسول (ص) مكة ثم غادرها عائداً إلى يثرب، وأقام دولته المدنية فيها وسماها “المدينة”، حيث الاختلاف هو سيد الموقف، فحوت المدينة المنورة أتباع كل الملل والمؤمنين والمشركين والمنافقين، وفي هذا رمزية يمكن لنا إدراكها بعد أن علمنا الفرق بين القرية والمدينة، فما بالكم بأم القرى؟
ومكة “أم القرى” هي الأحادية الوحيدة التي لن يسري عليها قانون الهلاك، وما زالت منذ عهد إبراهيم إلى اليوم تستقبل الحجاج بمناسك معينة، حيث أنهى إبراهيم عهد تقديم القرابين البشرية كأضاحي، وطهر البيت من تلك الظاهرة، وأنهى الرسول التلبية لغير الله فيها {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا} (التوبة 28) علماً أن “النجس” هو ما يخرج من الفم،وستبقى إلى قيام الساعة المكان الذي يجتمع فيه الناس تحت شعار “لا إله إلا الله”، متساوون فيما بينهم، في لباس موحد، لا فرق بين عربي وأعجمي، وغني وفقير، وكل من لا يدعو لغير الله مرحب به في الحج، فهو دعوة لكل الناس وليس لأمة معينة {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران 97).
ورغم اقتصار الحج حالياً على المؤمنين برسالة محمد، فإن أعداد الحجيج تزداد عاماً بعد عام، ورغم أعمال التوسعة التي تنجز، لا يزال الزحام هو السمة الأبرز، إذ يجتمع عدد هائل من الناس في يوم واحد في المكان ذاته، وهذه البقعة الجغرافية كانتتتسع في عصر النبوة وما تلاهمن قرون أولى لأعداد لم تكن لتتجاوز المئات، فيما تناهز المليونين في السنوات الأخيرة، فالمكان المخصص للحج لا يمكن أن يتغير، وإن اتسع، لكن هل لنا في إعادة النظر في إمكانية توسعة الزمان؟
قإذا تأملنا كل الآيات المتعلقة بموضوع الحج في التنزيل الحكيم، وجدنا أن الحج {أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} (البقرة 197) وهي غالباً الأشهر الحرم التي عرفتها العرب قبل البعثة المحمدية، وورد ذكرها في قوله تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (التوبة 36) وبالتالي نفهم أن موسم الحج يمكن أن يكون في كل من الأشهر الأربعة، ووفق ما نعرفه هي: محرم، رجب، ذو القعدة، ذو الحجة.
وكما أن هناك أشهر معلومات، هناك أيام معلومات أيضاً {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (الحج 27 – 28) والأيام المعلومات التي اشتهرت عند أهل الجزيرة العربية كموسم للحج هي الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة، والرسول (ص) حج في حياته في مرة واحدة سميت الحج الأكبر {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} (التوبة 3)، فما هي إذاً “الأيام المعدودات” التي ذكرت في قوله تعالى {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة 203)؟ إنها الأيام التي تبدأ بالوقوف بمزدلفة وتنتهي بطواف الإفاضة، ولا ضير في التعجيل بها أو تأخيرها، وقد ذكرت بعد “الأيام المعلومات”.
وبالعودة لقوله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة 197) نفهم أن هناك إمكانية للتوسع في زمان الحج، بدل أن يكون موسماً واحداً، ليكون أربع أو ثمان مواسم مثلاً، بحيث يحدد الوقوف في عرفة مرتين خلال كل شهر من الأشهر الأربعة، مع الاحتفاظ بعيد الأضحى في العاشر من ذي الحجة.
فإذا أخذنا بالاعتبار أن الحج دعوة لكل الناس، نرى ضرورة لإيجاد حل يستوعب الأعداد الهائلة في المستقبل، وقد يبدو هذا الطرح طوباوياً اليوم، لكن الحج شعيرة ستبقى إلى قيام الساعة، ولا بد أن يحصل يوماً ما نراه اليوم مستحيلاً، والأجدر بنا أن ننظر في الأمر على ضوء التنزيل الحكيم، ويمكن للهيئات التشريعية الاجتهاد بما تراه مناسباً.
نتمنى للحجاج حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً.