كاتبة سعودية
المتابع للخطاب الإعلامي الداخلي الصادر من الأجهزة الحكومية في الخليج، دون النزوح إلى التعميم المطلق، يجد أنه لا يركز على الرسائل التي تصل إلى الجماهير، بقدر ما يقدم صورة نمطية لخطاب تقليدي ثابت. خطاب «دفاعي» في الأزمات، وغير مقنع، عادة، للرأي العام. وهذا ما يخلق أزمة ثقة بينه وبين الجمهور الذي يبحث بالتالي عن بدائل. وتظل الرسائل التقليدية المطروحة والجهد المبذول يراوح في مكانه من دون فائدة.
وتجد برنامج «الثامنة» للإعلامي داود الشريان على شاشة «mbc» وغيره من البرامج الخليجية المشابهة، زاخرا بالأمثلة الحية لنموذج ذلك المسؤول الحكومي الذي يداخل في قضايا البرنامج بدفاع مستميت وكأنه في جبهة حرب. إذن تكون الحالة تصديا دفاعيًّا لا أكثر. وأذكر أن قالت لي شخصية خليجية منذ مدة قريبة: «نحاول إيصال ما نود توضيحه للناس من خلال الإعلام، لكن يبدو الأمر وكأننا نتحدث إلى الفراغ!». نعم، هذا لأن الرسائل المقدمة هي على الأرجح رسائل علاقات عامة تقليدية، لم تبحث عما يقنع الناس قولا وفعلا، ولم تواكب التطورات، ولم تقرأ المعاصرة بصيغة جيدة. وبالتالي لا تؤثر في الجمهور.
رغم تقدم أدوات الإعلام ونمو أفكار المجتمعات الخليجية، تلك المتجددة بفورة شبابها المتعلم الذي تزيد نسبته على ثلثيها، تجد أن لغة وأسلوب ونظام الفكر الإعلامي الحكومي لا يتحدث بخطاب مقنع عملي حديث؛ لذا نجد أن وسائل الإعلام الحديثة استطاعت أن تصل إلى فكر الجمهور ونافست الإعلام الرسمي، بل خرجت عنه.
أذكر هنا ما وضحه الرائد في فلسفة الإعلام «مارشال ماكلوهان»، وهو أن كل حقبة زمنية كبرى في التاريخ تستمد شخصيتها بشكل كبير من الوسيلة الإعلامية المتاحة؛ فعصر الطباعة مثلا، في رأي ماكلوهان، شجع على تطور النزعات الفردية خاصة السياسي منها، كما اختصر عصر الإلكترونيات مسافات الاتصال بين الشعوب. ويبدو أن الرجل سبقت توقعاته زمنه، حين اعتبر أن الوسائل المحدودة للتقنية آنذاك جعلت الشعوب تنصهر في بوتقة واحدة، وتشارك بشكل عميق في حياة الآخرين كما تؤثر على أفكارها ومؤسساتها، وبالتالي نمو مجتمع عالمي جديد، فكيف بالتطورات الكثيفة الحيوية التي نعيشها الآن؟
مع تقدم وسائل الاتصال الجماهيري التي تعتمد بشكل رئيس على تطور التقنية، إضافة للنمو الفكري للمجتمعات خاصة، تتغير اهتمامات الناس وطرق تفاعلهم مع الأخبار واللغة. وأعني باللغة، تلك التي تتعلق بالسياق الاجتماعي والثقافي لكل مجتمع. وهي بالتالي قاعدة تكوين الخطاب. لذا تأتي أهمية تطوير لغة الخطاب الإعلامي للأجهزة الحكومية بما يتناسب ولغة الخطاب العالمي – المحلي المعاصر والمقنع للعامة؛ فالإعلام يبقى مؤثرا رئيسا مهما اختلفت الوسائل المتطورة بتطور الزمن. على الأقل حتى الآن. وقد اهتم خبراء الإعلام بهذه التطورات التي تعزز من فهمنا لتأثير الخطاب الإعلامي على الجماهير.
هل يوجد خطاب واحد لحقبة زمنية واحدة أم أن هناك خطابات متصارعة؟ بطبيعة الحال يبدو أن رؤية ماكلوهان – وهو ما يتفق معه فيها ميشال فوكو – تقارب الصواب بأن لكل حقبة خطابها الخاص بها فلا يتعداها إلى زمن آخر. إذن فهو خطاب متغير ومتطور غير ثابت. ثم هل يختلف الخطاب السياسي عن الخطاب الاجتماعي عن الخطاب الإعلامي؟ وهل هي علاقات تنافسية أم صراعية أم تكاملية؟ هناك تداخلات تفرضها طبيعة الحدث. وهذه وغيرها أسئلة تستحق أن ينظر إليها بعين الاعتبار.
ولأنه لا يمكن بطبيعة الحال أن يكون كل من اللغة والأسلوب بمنأى عن السياق المجتمعي والثقافي المرافق له. ومن يتابع تصريحات المسؤولين وردود فعل المجتمعات حولها، يجد أن الشارع الخليجي مثلا يحتفظ في ذاكرته بتصريحات على لسان مسؤولين حكوميين بعضها وصل إلى التندر ومضرب المثل. المفردات كما الأفعال التي تلتقطها كاميرات الناس بالفيديو والصور الرقمية تنتشر بسرعة البرق في وسائل الإعلام الجديد. وقد تنافس الصورة والمقاطع المرئية بطبيعة الحال بشراسة في وجه الكلمة.
لذا فكل التراكمات تكون خطابا إعلاميا عامًّا من الصعب تجازوه بسهولة دون خطة حقيقية لتغيير النمطية، وتغيير نظرة الجماهير إليها. ولا يحدث ذلك قبل التوقف ودراسة الخطاب الإعلامي وردود الفعل تجاهه من خلال دراسة تراكمات خمس سنوات أخيرة – على الأقل – كنقطة انطلاقة. عندها نستطيع القول إننا يمكن أن نتخذ خطة استراتيجية خمسية للتطوير. وبطبيعة الحال، فإن مشاريع التنمية والإصلاح لا تقل أهمية عن تنمية وإصلاح وتطوير الخطاب الإعلامي الرسمي، ذلك الذي لا بد أن يتماهى مع تطورات الزمن وأدواته، وبطبيعة الحال مع أحوال الناس.
المصدر: الشرق الأوسط