هناك فارق في تشبيه رئيس دولة، برجل دولة، في المفاهيم العامة وعند العامة من الناس، فرئيس الدولة، من يتولى قيادة دولة ما أو بلد ما، بحُكم تداول السُلطة أو بالاختيار من أهل الحل والعَقْد، أو بالانتخاب العام، أو بطرق أخرى كثيرة، يعرفها علماء السياسة والاجتماع، وتقع أحياناً بصورة مكررة. وليس من الضروري والمحتم أن يرأس شخص دولة ما أو شعباً من الشعوب، بالانتخاب الذي يجري عادة في الدول ذات الأنظمة الشبيهة بالليبرالية الديمقراطية، ويصبح هذا الشخص من الخيار أو من الأخيار بين من ترشحوا للرئاسة، بل قد يأتي شخص يصبح الناس على انتخابهم إياه أو اختيارهم له نادمين، وقد يعضّون أصابعهم ندماً على ما فعلوه.
وأمامنا أمثلة كثيرة يطول بنا الحديث لو تطرقنا إليها بالإشارة أو التفصيل، ولكن عندما نشير إلى شخص ونقول رجل دولة، فإن هذا الشخص تتجمع في شخصيته الصفات الخُلقيّة والذهنيّة، من قوة الشخصية والإدراك السليم وبُعد النظر، والعقليّة التي تُميز بين الأشياء، وتدرك الحقيقة عبر هذا التمييز، فضلاً عن الشجاعة وسداد الرأي، والابتعاد عن التهور، والرَويّة في اتخاذ القرار؛ كل هذه الصفات الحسنة التي تضع المرء في خانة العظماء من الناس، وتجعله لائقاً ليتقدم الصفوف، كانت تتجمع في المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، وجعل رحيله في هذا الشهر المبارك يوم التاسع عشر من رمضان عام 1425 هجرية، في ميزان حسناته، وحشَرَه مع الصديقين والشهداء والصالحين.
إذن، أمثال الشيخ زايد، بصفاتهم الخَيّرة هم من نُسميهم رجال دولة بجانب أن يكونوا رؤساء دولة.. وكان الشيخ زايد يعيش في واحة العين والمناطق المحيطة بها نائباً للحاكم ومديراً لهذه المُقاطعة المُهمة والجميلة من أرض الإمارات، في وقت كان العَيش والمعيشة في هذه المنطقة، في ضيق وضنك بين عامي 1946 و 1966، وهو العام الذي تولّى فيه سُدة المسؤولية حاكماً لأبوظبي، واتجهت إليه أنظار العالم في هذا الوقت لترى فيه شيخاً للعشائر وحاكماً للبلد، ينضو عن نفسه ثوب القديم البالي، ويلبس الجديد من الثياب، ويبرز في المنطقة كلها رجل بناء ورجل دولة، والمؤهل لرئاسة دولة المستقبل وحامل لوائها.
وكان زايد بن سلطان، في أحلك أوقات الضيق المعيشي، وهو في الواحات، كما أشرنا، يُفكر كيف يحقق لهذه الواحة البهجة والعُمران؛ وأوّل شيء فعله هو توجيه الدعوة لمن يرغب في أن يأتي إلى الواحة، ويستثمر في التجارة والزراعة. وأعطى القادمين من المُدن المجاورة أراضي للسكن وللزراعة، وبنى الأسواق وأفلاج الماء، ولم تمض أعوام قليلة، إلا كانت العين المدينة الصحراوية التي أصبحت تنافس مُدن الساحل المُطلة على البحر الخليجي.
ومن أعمال زايد الكبيرة التي هي من مَفاخِره رجلَ دولة، مساهمته الفعالة في تأسيس قوات جيش الساحل، بُغية حماية الواحات من المشكلات التي كانت تثيرها الاضطرابات القَبليّة بين الحين والآخر، وإلحاق شباب البدو المُحيطة مضاربهم السكنية بالواحات بالجيش الجديد، وتأهيلهم، ليكونوا دروعاً للدفاع عن الوطن والولاء له، بدلاً من توزيع الولاءات لهذه القبيلة أو تلك. وكانت هذه الخطوة من أعظم الخطوات التي أقدم عليها الشيخ زايد، رحمه الله، وهي التي أظهرته قائداً مُفكراً ومُدبراً ومديراً لجماعات من الناس لم يسبق لهم أن رأوا تنظيماً وتنسيقاً في أمورهم المعيشية والحياتية. وعُدّت هذه الخطوات من الناحية التنظيمية، عملاً لم يسبق له مثيل في تاريخ المنطقة.
وقد أشار إلى مثل هذه المآثر من الشيخ زايد، عدد من المؤرخين الذين زاروا المنطقة في النصف الأول من القرن الماضي، مثل جون كيلي، صاحب الدراسات المعروفة عن الخليج.
والذي يثير الإعجاب بهذه الهمة العالية من الشيخ زايد، أنه لم يكن يملك غير القليل جداً والمحدود من المال في ذلك الوقت العصيب، ولكنه كان يملك العزيمة القوية والتدبير القويم، ومنطق الإقناع وبثّ الروح المعنوية في الأفراد، وترسيخ التعاون والتآزر في نفوسهم، ما جعل البدوي يشعر أن زايد، كما قال أحد البدو لألفريد تسيجر، الرحالة الإنجليزي المعروف إن زايد «بدوي.. إنه يعرف عن الجِمال الشيء الكثير ويستطيع أن يركب كواحد منا ويصطاد ويعرف كيف يقاتل».
وهنا نصل إلى نقطة كما أشرنا إليها في مستهل هذا الحديث، وبعده، أن الشيخ زايد كان يجمع بين الشخصية الرئاسية الإدارية القويمة للدولة، وشخصية رجل الدولة المملوء بالاتزان وقوة الشخصية، وصاحب الموهبة التي تجعله محط الأنظار ومحط القبول من الناس، ويقول هؤلاء الناس بصوتٍ عالٍ، هذا الذي نقبله ونرضاه.
وفي هذا الحديث الموجز، يقتصر الحديث على الشيخ زايد، رحمه الله، رجل دولة، ولكن الحديث عن الشيخ زايد، رئيساً للدولة والحاكم والقائد البارز بين قادة العالم الكبار، له مبحث آخر تَقصُر عنه الكُتب والأسفار.
كتاب رمال العرب
المصدر: الخليج