بعد صمت طال أمده من السياسة الأميركية تجاه القدس وقضايا الوضع النهائي برمته، يأتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب حاملاً خطاياه وخطايا من قبله، معلناً أن القدس عاصمة لإسرائيل، من دون اكتراث لأية تداعيات قد تنشأ عن مثل هكذا قرار بعد عقدين أو يزيد على مفاوضات كان يؤمل أن تؤدي يوماً ما إلى سلام في القلب منه مدينة السلام.
تعرّت السياسة الأميركية بنواياها إزاء القضية الفلسطينية وفرضت وقائع جديدة لم تكن يوماً لا بحسبان القيادة الفلسطينية ولا الشعب، صدمة وجدانية حقنها القرار في نفوس العرب والفلسطينيين شيباً وشباناً، لكنّه لم يثن عزمهم عن التمسك بتاريخ المدينة وعروبتها.
يقول الناشط الشبابي مصطفى الدهدار: بالتأكيد كان وقع القرار علينا كعرب وفلسطينيين سيئاً للغاية، لكن أحلامنا بدولة مستقلة لن يقف حائلاً في وجهها لا ترامب ولا غيره، دبلوماسياً نحن من انتصرنا وعدد الدول التي صوتت ضد القرار يشهد بذلك، نحن نفخر بكل الجماهير العربية التي خرجت مناهضة للقرار.
كما وندعو الكل الفلسطيني للمشاركة في الفعاليات التي ينظمها فريق (سفراء السلام) رفضاً لقرار ترامب وللسياسة الأميركية تجاه القدس.
قداسة القدس
بقراره بشأن القدس، تجاهل ترامب أهمية القدس بالنسبة للفلسطينيين والعرب والمسلمين، وهي مدينة ذات جذور ضاربة في التاريخ عصية على الاقتلاع. فما بين قدسية المعبود وقدسية المكان، تجلت الحكاية، ليلها، أبوابها، أسوارها، شهداؤها، طيب ثراها، تاريخها ودوي الصرخات فيها، كل ينادي باسم الحق والأصالة أنها عربية الاسم والميلاد منذ فجر التاريخ وحتى نهاية الزمان.. هي يبوس وأورسالم، جيروسليم، ايلياكابتيولينا وغيرها.. وتعاقبت عليها حضارات عدة وعصور عدة.
يقول الباحث والمؤرخ الفلسطيني عبد الله الزق حول تاريخ المدينة العربي: القدس هي محور الصراع لا في فلسطين فحسب بل في العالم أجمع، وفي حقائق التاريخ الماثلة هي عربية لا في بدايات النشأة فحسب ولا في ترحابها بمرور سيدنا إبراهيم بها وهو قادم إلى فلسطين، ولا في الحوار الطيب بين أميرها أبي مالك وإبراهيم (مرحباً بإبراهيم بالقداسة فيها)، بل بكل ذلك وأكثر، بدفاع الشباب عنها وصمود الشيوخ.
ويضيف الزق: لاقت هذه المدينة من ويلات ما يكفي لجعلها أيقونة وحصناً منيعاً ضد أي حملات صليبية في الماضي سبقها هجوم مغولي وما تلا ذلك وما سبقه من عواصف سياسية وتاريخية للمدينة كان أقساها في الثالث من ديسمبر عام 1948 حين أعلن ديفيد بن غوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بأن القدس الغربية عاصمة للدولة الإسرائيلية.
مشكلة مخترعة
ويتابع: (نشوء الاستعمار وحاجته لتقسيم العرب والمسلمين ونهب خيراتهم ألزم الاستعماريين على طرح مشكلة اليهود ونقلهم إلى فلسطين، وهكذا نشأت مشكلة اليهود بشكل مخترع لا لحل لمشكلة اليهود المتواجدين في بلاد العروبة وإنما لحل مشكلة الاستعماريين في منطقتنا العربية والإسلامية، بتأييد مطالب الحركة الصهيونية التي نشأت حديثاً ضمن مزاعم الاضطهاد العربي والمسيحي لهم في منطقتنا فلسطين).
وقد يسأل سائل ما علاقة هؤلاء اليهود الخزر الذين يشكلون 90 % من يهود العالم، والذين لا تربطهم أية صلة تاريخية بفلسطين وأنبيائها، ولم يسكنوها لا هم ولا أجدادهم، ما علاقتهم بالمسجد الأقصى وفلسطين؟ ما علاقة بن غوريون ونتانياهو وبيريز ورابين وأحزاب العمل بيعقوب وموسى وإبراهيم؟ ما علاقتهم بالخليل ويافا والجليل وغزة؟.
تزييف التاريخ
منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى هذه اللحظة، محاولات تزييف تاريخ المدينة وإضفاء الطابع اليهودي عليها بات نهجاً يتمسك الصهاينة به لاستهداف الوجود العربي الفلسطيني القائم والحضارات التي عاشت فيها منذ مئات السنين.
وفي هذا الشأن تقول أستاذة التاريخ سمية عجوة: أعتقد أن لو كان بوسعهم جعل هواء مدينة القدس يهودي الطابع ما ترددوا في ذلك، من خلال تهويد الحجر والبشر وبناء المستوطنات وجلب عدد أكبر من مهاجرين يهود جدد. وتضيف: زوّروا التوراة، وليس من الغريب أن يزورا تاريخ ومعالم المدينة.
عروس العروبة
القدس مدينة الأنبياء وزهرة المدائن، فحيثما أدرت وجهك، فثمّ جمال ساطع، فهي تبدو كنجمة صبح إذا ما جن ليلها وفي الصباح وجه بائع الصفيحة فيها يملأ المدينة فرحاً يخيّل للزائر أنه أزلي الطابع. تبدو في رونقها كما الفراشات يخيم عليها سلطان النعاس، ولكن من يقرأ سطورها يعي جيداً أن دوح الحمام فيها مشحون بالنار والثورة.
وسط فلسطين، تجلس مدينة القدس متربّعة على أربعة جبال (الموريا، صهيون، أكرا وبزيتا) وتحيطها جبال أخرى كالزيتون، رأس المشارف، المُكبِّر، أبو عمار، بطن الهوا والنظار وأبو غنيم، على مساحة تبلغ 125.1 كم2. قربها تقع بلدة أو حي سلوان وكأنها الولد البكر للمدينة الأم، وهي أكثر أحيائها قرباً من أسوار وأبواب القدس القديمة. تقع على الناحية الجنوبية الشرقية المحاذية للمسجد الأقصى وحائطه الخارجي.
وفيها أيضاً حي العيساوية وشعفاط وبيت حنينا ووادي الجوز والحي الإسلامي وغيرها. أهم حاراتها النصارى والمغاربة وحارة الشرف الملاصقة لحارة المغاربة، شوارعها العتيقة. رائحة دكاكينها وأسواقها ليست محاسن تحكي باللسان بل جذور تاريخية تضرب في عمق عروبة هذه المدينة ومعالمها ورائحة الزعتر فيها لتخترق أنوف الداخلين لهذه الأسواق وتعبق في كل أرجائها.
داخل الأسوار
المسجد الأقصى، هو اسم لكل ما هو داخل سور المسجد الواقع أقصى الزاوية الجنوبية الشرقية من البلدة القديمة. سمي بالأقصى لبعده عن المسجد الحرام وما هو ببعيد حيال نبض عروبي واحد. يقع فوق هضبة صغيرة تدعى هضبة موريا، وتعد الصخرة أعلى نقطة فيه وتقع في جوفه.
تبلغ مساحته 144.000 متر مربّع. يضم بين حناياه قبة الصخرة والمسجد القبلي والمصلى المرواني. بدأ بناء القبة في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، وهي جزء من المسجد الأقصى، وعرج النبي محمد صلى الله عليه وسلم، منها حيث سدرة المنتهى. جمال الله وجمال مصلاه يبزغ جلياً في المصلى القبلي وهو جزء من المسجد الأقصى، يتمتّع بالقداسة كونه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وإليه تشد الرحال بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي، وتعادل الصلاة فيه خمسمائة صلاة.
يقول أهل القدس إن تاريخ مدينتهم منقوش في نفوسهم مدى الدهر، ففلسطينيتها وعروبتها وإسلاميّتها يؤكّدها تاريخ لا يمكن أن تعبث به يد عابث أو مزور.
أبواب وأسوار تحاكي التاريخ
للمسجد خمسة عشر باباً، عشرة منها تتوزع على السور الشمالي والغربي مفتحة كما أبواب الجنان للصالحين، وخمسة منها مغلقة قديمة، بعضها لا توجد له آثار تتوزع في السور الجنوبي والشرقي كما الطيور المحلّقة في سماء السلام، حتى الأبواب المفتوحة تغدو مغلقة إثر انتهاكات الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين للمسجد، باب الأسباط أهم أبوابها ويقع على سورها الشمالي، باب حُطّة، باب الملك فيصل، باب الغوانمة، باب الناظر، باب الحديد، باب القطانين، باب المطهرة، باب السلسلة، وباب المغاربة.
هذه هي الأبواب المفتوحة، أما القديمة فهي الباب الثلاثي الذي أقفل زمن صلاح الدين الأيوبي لحماية المسجد والمدينة من أي غزو، الباب المزدوج وباب الرحمة وباب الجنائز والباب المفرد. الأسوار التي تحيط بالبلدة القديمة، موغلة في القدم..
وبنيت لتحصين المدينة من الغزو. أعيد تشييدها أيام كانت القدس تحت الحكم العثماني بأمر من السلطان العثماني سليمان الأول ما بين عام 1535حتى 1538 للميلاد، وتعد عامل جذب للسياح أيضاً، تعج بالآثار لمختلف الديانات، كنيسة القيامة، طريق الآلام، ضريح السيدة مريم، كنيس القديس الأكبر وغيرها من الآثار التي تصدح بتاريخ من الفخر والحزن يجعل من هذه المدينة حية لن يطرقها الموت، لن تضيق بذرف دموع ولا حشد صلوات.
المصدر: البيان