كاتب متخصص في الإدارة
استمتعت وأنا أصغي إلى مترجم اللغة اليابانية، الشاب الكويتي بدر الفيلكاوي الذي كان يتحدث عبر التلفاز عن تجاربه في اليابان التي أقام فيها وحصل على الماجستير في لغتها وهو يحضر حاليا للدكتوراه.
اتصلت به لأجري معه حوارا عفويا أنقله إلى القراء كشاهد عاش التجربة بعيدا عن الكتب ومصادر المعلومات التقليدية. يقول المترجم بدر إن من أكثر ما أثار إعجابه، فضيلة الاعتذار المقدسة عند هذا الشعب، فضلا عن روح الانضباط والعزيمة والإصرار على تحقيق الأهداف مهما كانت مشقتها.
إذ تحدث عن غابة يابانية شهيرة «تعتبر قبلة المنتحرين وتقوم الشرطة اليابانية عادة بإرسال دوريات للبحث عن المنتحرين فيها». ذلك أن كثيرا من اليابانيين قد يقتلون أنفسهم ليعلنوا على الملأ اعتذارهم عما بدر منهم. وبالفعل أذكر أنني قرأت أكثر من خبر يشير إلى انتحار القياديين بطرق شنيعة اعترافا منهم بتحمل المسؤولية. ولو طبقنا مبدأ الانتحار الياباني كاعتذار في بلداننا العربية لربما زهقت أرواح ملايين الناس! ويصل الأمر في المواطنة اليابانية وحتى الياباني إلى حلق شعرها كاملا كنوع من تسجيل الاعتذار والندم.
وتحدث الفيلكاوي عن روح الانضباط لدي اليابانيين، الذين جرى العرف عند كثير منهم إلى أن «يأتوا إلى مقر العمل قبل 30 دقيقة من ساعة بدء الدوام» الرسمي. ويعتبر الموظف الذي يأتي مع وقت بداية العمل بمثابة «موظف غير منتظم» على حد وصفه. وإذا وصلوا لا يمضون جل أوقاتهم في الثرثرة مثل بعضنا لأن «اليابانيين عموما لا يحبون الثرثرة، فمن الطبيعي أن ترى مجموعة يجلسون مع بعضهم البعض ولا يتكلمون إلا نادرا».
وفي اليابان، تشهد بعض مقار الأعمال طقوسا غريبة على كثير من شعوب العالم، مثل ممارسة بعض جهات العمل للتمارين الصباحية على غرار مدارسنا لتنشيط أجسادهم وعقولهم، ثم التشمير عن سواعدهم إيذانا بانطلاقة يوم عمل شاق ومنتج.
وأكثر ما أعجبني قوله إن «الياباني إذا قال لك أنا أستطيع فعل ذلك فهو بالفعل قادر على أداء ذلك العمل على أكمل وجه وقد يفوق توقعاتك». يعني بعبارة أخرى «الفهلوة» العربية بعيدة عن ثقافتهم! وذلك مرده لعدة أسباب اجتماعية وسياسية.
فعدد من المؤرخين الذين تناولوا تاريخ اليابان ذكروا أن هزيمة اليابانيين في الحرب العالمية الثانية أحدثت تحولا جذريا في تفكيرهم وتاريخهم من دولة تبطش بجيرانها إلى دولة صناعية متحضرة لديها رؤية ثاقبة. ورغم العداء الشديد الذي يناصبه جيران اليابان لها، بسبب مواجهاتها وحروبها التاريخية معهم، فإن ذلك لم يمنعهم من أن يكونوا شعبا منتجا ومكافحا بغض النظر عن حقيقة أن 70 في المائة من أراضيهم جبال غير مأهولة بالسكان، وتحيط بهم زلازل، وبراكين، ويقيمون على جزر مبعثرة، لكنها الإرادة الجادة في الإصلاح والخطط المدروسة حينما يضعها القادة أمام شعوبهم فيتحول البشر مع مرور الوقت إلى أفراد يشار إليهم وإلى قادتهم بالبنان. فكل حضارة سادت بنيت على أكتاف بشر كانوا يضعون الشخص المناسب في مكانه المناسب.
المصدر: الشرق الأوسط