بين زمنين

آراء

العاشرة صباحاً في مطار واشنطن، كنت أهرول إلى بوابة طيران الإمارات بعد الإعلان الأخير عن الرحلة. ربما كنت آخر مسافر يركب الطائرة، وكأنني أُسابق الزمن كي لا يفوتني هذا الموعد الطويل مع السماء. جلست في مقعدي وأنا أتهيأ لرحلة تقارب خمس عشرة ساعة إلى دبي، رحلة تمتد على خط الزمن كما تمتد على خط الطول.

كنت قد استيقظت من النوم قبل ساعات قليلة، فلا مجال للنعاس. ولقتل الوقت شاهدت ثلاثة أفلام متتالية، لكن ما إن نظرت إلى زاوية الشاشة حتى وجدت أن أمامي تسع ساعات أخرى. شعرت بالملل، وكنت أسافر وحيداً، فقررت الذهاب إلى الصالة لطائرة الإيرباص A380، لعلّي أجد بعض الصحبة التي تسرّع عقارب الساعة.

في الصالة لم يكن سوى راكبين: أحدهما منهمك بالحديث مع مضيفة تقف خلف الكاونتر، والآخر جالس بصمت يشرب كوب شاي أخضر، تبدو على ملامحه آثار الملل ذاته الذي يسكنني. اقتربت منه وبادرت بالحديث: رحلة طويلة، أليس كذلك؟ ابتسم بخفة وأجاب: نعم، ولكن على الأقل يمكننا تغيير أماكننا من حين لآخر.

ملامحه ولهجته أوحت لي بأنه من الصين. سألني إن كانت دبي محطتي الأخيرة، فأجبته بالإيجاب، ثم سألته عن نفسه فقال إنه سيقضي ثلاثة أيام في الإمارات قبل العودة إلى شنغهاي. مازحته: كنت أظن أن الصينيين ممنوعون من دخول الولايات المتحدة. فضحك قائلاً: ليس بعد.

وأثناء حديثنا، كان التلفزيون في الصالة يبث تقريراً عن تجارة المخدرات في العالم، يتتبع جذورها التاريخية، ويذكر حرب الأفيون التي عصفت بالصين في منتصف القرن التاسع عشر. أثار المشهد فضولي، فقلت له: لا أعرف الكثير عن مشكلة الصين مع الأفيون، لكنني أعلم أن بريطانيا كانت طرفاً في الأمر. تغيرت ملامحه فجأة وقال بجدية: لم تكن مشكلة، بل كارثة. قُتل أو مات بسببها عشرات الملايين من الصينيين، وسُلبت إرادتهم وكرامتهم، ودُمّر الاقتصاد لأكثر من قرن.

توقف عن الحديث ثم تنهد بعمق قائلاً: بريطانيا لم تلتفت إلى ذلك بل أرسلت أسطولها وفرضت شرعية تجارة الأفيون. علقت قائلاً: هل اعتذرت بريطانيا للصين، وهل طالبتم بتعويضات؟

جاء رده مفاجئاً لي: لا. لم تطلب الصين أي شيء، فبعد عام 1949 بنت جمهورية الصين الشعبية روايتها على النهوض الذاتي، واعتبرت أن القضاء على الأفيون بيدها هو التعويض الحقيقي، لا المال القادم من الخارج.

وصلنا إلى دبي، وبينما كنا نسير نحو تسلم الحقائب، التفت إليّ رفيق السفر الصيني وسألني: وماذا عن تجربتكم أنتم في الإمارات مع الاستعمار البريطاني؟

وصلت حقيبتي وانتهى لقاؤنا ومضى كل في طريقه.

للإجابة عن سؤاله حاولت أن أستحضر ما عرفته من التاريخ، فعلى مدى أكثر من قرن فرضت بريطانيا هيمنتها على الإمارات والمنطقة. لم تأتِ بريطانيا لتبني أو تعلّم، بل لتؤمّن مصالحها البحرية والتجارية.

الحرمان من التنمية في كل القطاعات كان سياسة المستعمر، فبقيت المجتمعات في دائرة الفقر والأمية.

أما الوضع الصحي فكان كارثياً، وحتى الخمسينيات كان يموت طفل إماراتي من بين كل ثلاثة يولدون أكثرهم في السنة الأولى، اللقاحات التي اكتشفتها أوروبا قبل عشرات السنين كانت لأصناف معينة من البشر، لم نكن منهم، وحتى المستشفى الأول في العين، مستشفى كند، فقد جاء من جمعية تبشيرية أمريكية، لا من السلطة البريطانية.

لا تخلو عائلة إماراتية من فقدِ عزيز عليها، ليس لأن المرض لا علاج له، بل لانعدام المستشفيات.. يموت الإنسان من الجفاف وعلاجه كان مجرد إبرة مغذٍ في الوريد، وتسمع كثيراً «الياهل ضربه أبو صفار ومات» ولإنقاذ حياته كان يحتاج إلى أن يوضع تحت مصدر ضوء «تيوبليت» وتنتهي معاناته.

كانت بريطانيا تعلم بظروف ومعاناة السكان المحليين، وتكريسها الفقر والجهل في منطقة وقعت تحت نفوذهم لسنين طويلة هو إدانة لهم.

في نهاية الحديث تأتي الخلاصة، وهي أن الشعوب تحفظ جراحها في وجدانها، لترويها كدروس مستفادة لأجيالها القادمة.

المصدر: الخليج