كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
لا بد أن هناك اقتصاديين يقولون بذلك، إذ لا يعقل أن تستحيل التنمية إلا ببلايين الدولارات، فدول كثيرة تفتقر للمال، حتى الغنية منها تعتريها دورات اقتصادية كالركود تقل فيها السيولة، مثل الولايات المتحدة اليوم. بل مرت عليها أيام سود في سنوات الكساد العظيم من عشرينات القرن الماضي. لم تيأس، وإنما تفتقت عقول جبارة عن حلول ذكية أطلقها رئيسها المقعد روزفلت، وحوّل بخطة تنموية طموحة عرقَ الرجال إلى مشروع بناء للوطن عاشت أميركا في خيره حتى نهاية القرن، ويستحق مشروع روزفلت أن يقرأ ويدرس في دول «الربيع العربي».
السعودية أيضاً مرت بسنوات كساد عندما انخفضت أسعار النفط في منتصف الثمانينات، وقال ولي العهد آنذاك
الملك عبدالله: «حان وقت شد الأحزمة». من المفيد تنموياً أن تتعود الدول على «الإنفاق الذكي»، وتجيده في زمن الرخاء حتى يعطي لمالها عائداً أكبر في زمن الشدة.
عندما يختفي المال أو يقل، يبقى العقل والجهد وحسن التدبير. هذا ما تحتاجه اليوم مصر وتونس واليمن وغداً سورية، وقد تآكل في زمن ثوراتها احتياطها النقدي أو ما تبقى منه برغم الفساد وسوء إدارة الأنظمة المخلوعة، ويحميها أيضاً من تقلبات السياسة، وتغير مزاج الأصدقاء.
من المفيد أن ننشغل بهذه الأفكار في زمن «الربيع العربي» ونتدبرها، فالشعوب باتت تتولى زمام أمرها، فتقدم الثقاة من خبراء الاقتصاد والتنمية، لا عسكراً ضيقي الأفق متواضعي التعليم، بخاصة بعدما أضحى شعار «مكافحة الفساد» سبباً للثورة ثم شرطاً للنهضة، وأصبحت قضايا المواطن «الشعبية» هي التنمية وتوفير الوظائف، لا التغني بتاريخ الزعيم وتبجيله وقبول هناته وكل اجتهاداته ما يصيب منها وما يخطئ.
هذا في بلاد «الربيع العربي»، ولكن خاطرة «التنمية بالقليل من المال» داهمتني كمواطن سعودي في طريق الدمام – الرياض، الممتد من شرق البلاد الغني بربع احتياطي نفط العالم إلى عاصمتنا الممتدة فوق ألفي كيلومتر مربع، ويزيد عدد سكانها باضطراد ما جعلها أسرع عواصم العالم نمواً. ينساب الطريق باقتدار فسيحاً بمسارات عدة فوق صحراء شاسعة، لا يعيبه سوى أن وزارة النقل التي أنفقت بلايين عدة لتشييده أهملت تجديد طلاء خطوط مساراته الثلاثة، ولم تجدد تلك العلامات المضيئة التي تحدد المسارات، والتي بالتأكيد لا تقارن كلفتها بكلفة مد الطريق، ولكنها البيروقراطية والاعتمادات المالية التي تعطل مسألة تنموية كهذه، بقدر ما لها علاقة بسلامة المواطن وبضعة ألف شاحنة نقل تنقل البضائع من موانئ الشرقية ومصانعها إلى باقي الوطن.
كتبت عن تجربتي هذه في حسابي على «تويتر»، وقلت إنه لو وفرت الوزارة من كلفة إضاءة كامل الطريق المؤدي إلى مكة المكرمة من جدة، بالكهرباء المتولدة من نفط البلاد الذي بتنا نستهللك منه نحو مليوني برميل يومياً وليس بالطاقة الشمسية، لاستطاعت أن تجدد طلاء طريق الدمام – الرياض والذي لا يقل أهمية. كان رد معظم المتابعين السعوديين أن لدى الدولة المال الكافي ليس فقط لطلاء مسارات طريق الرياض الدمام بل لإضاءته بالكامل من غير حاجة لتوفير المبلغ من موازنة طريق آخر.
من الواضح أن لدينا مشكلة حادة في فكرة «الإنفاق الذكي»، فطالما أن هناك فائضاً مالياً فلا بأس من إنفاقه ولو بإضاءة كل طرقنا البرية.
من الضروري طرح سؤال «قومي»: هل على الدولة إنفاق المال – إذا ما توافر – على التنمية والبنية التحتية والخدمات بسخاء، أم ننفقه بذكاء وحسن تدبير واقتصاد؟ الاقتصاديون مثلاً يحذرون دائماً من إهدار المصادر غير المتجددة كالنفط والماء. المال بالتأكيد «مصدر» غير متجدد، إلا إذا كان مصدره «الإنتاج» لا باطن الأرض.
لكن الذهنية العربية لا تزال تربط بين التنمية والمال، لعل ذلك ناتج عن أن الإعلام الحكومي دأب على الترويج للحكومة ليس بأرقام الإنتاج، وعدد الوظائف التي وفرتها، وانخفاض نسب البطالة، وإنما بـ «مانشيتات» كذا بليون خصصت لهذا القطاع أو غيره…، حتى في الدول ذات التراث الاشتراكي، لم تكن تخلو الصفحة الأولى من «الأهرام» المصرية مثلاً من «مانشيت» يقول «رصد 13 بليون جنيه لدعم السلع التموينية». ما أسس للاتكال على الدولة الرعوية أو الأبوية في ذهن المواطن العربي، وجعل تقويم أداء الحكومة التنموي بما تنفقه من بلايين، لا بما توفره من حوافز هي أدعى للتنمية، كالتعليم والتدريب والقضاء على البيروقراطية والفساد.
إن توفير أرض مجانية أو برسوم محدودة هو أكثر فائدة لبضعة آلاف شاب يبحثون عن وظيفة لن تكلف الدولة غير آلاف قليلة هي رواتب موظفين، هي مرصودة مسبقاً في موازنة الدولة، وسيكون عائدها أكبر من بلايين تضخ في موازنة أية وزارة.
قبل أسابيع كتبت تقريراً نشر في هذه الصحيفة عن شباب سعوديين يعشقون تربية «الحلال»، وهو الاسم التقليدي لتجارة الماشية وتربيتها، ومستعدون للتفرغ من أجلها، وتجربتهم رغم مخاطرتها ناجحة اقتصادياً، ولكن لا يحول دون توسع هذه التجارة البسيطة والأساسية سوى عدم توافر الأراضي، ذلك أنهم يقيمون مشاريعهم على أراضٍ لا يملكونها، وهم مهددون دائماً بأن يجليهم مالكٌ ما عنها. هذا نموذج سعودي لتنمية لا تحتاج إلى مال من الدولة، وإنما فقط أن تقوم الحكومة بوظيفتها الأصلية كمنظم ومشرّع لتجارتهم.
نموذج آخر من مصر التي لم تستقر بعد، وحكومتها تكاد أن تكون حكومة «تسيير أعمال»، فلم تضع خططاً استراتيجية بعيدة المدى. ارتفع إنتاج فدان القمح والأرز فيها بعد الثورة لمجرد أن المشرفين على توزيع مياه الري تحرروا من ضغط أصحاب النفوذ، فوزعوا الماء بقدر من التساوي، فحصل الفلاح المصري «المظلوم دائماً» على حصته المستحقة من الماء. لم تضخ الدولة بلايين، ولم توزع بذوراً أو أجهزة ري حديثة… فقط وفرت قدراً من العدالة.
يمكن للقراء أن يضيفوا عشرات الأفكار المماثلة من مختلف بلاد العرب عن الفرص الاستثمارية المهدرة التي كان يمكن أن تتوافر لمواطنين يريدون العمل، وكان يمكن لإنتاجهم أن يضخ مالاً في الاقتصاد الوطني من دون الحاجة إلى مئات البلايين، أما إن اجتمعت البلايين مع حسن التدبير والعدالة الاجتماعية، فحينها ترقبوا عالماً عربياً سعيداً مواطنين وحكاماً.
دارالحياة – السبت 17 مارس 2012