كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
في البحرين عادة جيدة، هي المجالس الرمضانية، حيث لكل عائلة مجلس كبير يستقبلون فيه ضيوفهم في ليالٍ محددة طوال الشهر الكريم، فيمضون وقتهم بعد صلاة التراويح في مجلسهم أو يزورون مجالس غيرهم .
في مجلس رمضاني سمعت حديثاً بين رئيس الوزراء الأمير خليفة بن سلمان ومواطن بحريني عن «أيام زمان» في أحياء البحرين القديمة، كان الحوار حول من بقي في «فريج العمامرة»، الذي نشأ فيه مُحاور رئيس الوزراء، ومن انتقل، وما حصل في تلك الأيام، كان في الحديث قدر هائل من الاشتياق الرومانسي لتلك الأيام والأماكن القديمة، وهي حالة أراها تتكرر حيثما جلست مع رجالات ذلك الزمن القديم في بلادي، «والبحرين أيضاً باتت بلادي بحكم القرابة والحب»، فلماذا هذا الاشتياق لتلك الأحياء القديمة ونحن من ضاق بها، وتخلى عنها؟ ضقنا من أزقتها الضيقة، وأسقفها العالية، وأبوابها الخشبية، بعدما تمثلت لنا الحداثة والتطور في المباني الإسمنتية الحديثة، في أحياء ذات طرق فسيحة، بدون شجر أو ظل، بعيداً عن وسط المدينة القديم الذي كانت مبانيه تحن لبعضها بعضاً فتنشر ظلالاً في الطرقات، ونسمات باردة تنعش النفس، وسدرة خضراء شامخة وسط الحي يجلس تحتها بائع الثلج وزجاجات الكوكاكولا والفانتا المسقعة. حوار رئيس الوزراء والمواطن فيه الجواب، إنه افتقادنا لعلاقة جميلة لا تعوضها أجمل المباني وأوسع الطرق، إنها «الجيرة» أن تخرج من بيتك نحو المسجد أو السوق، تلتقي بجارك، تسلم عليه، تمسك بيده، تمضيان معاً، تتبادلان الأحاديث، تلتقي بجار آخر، تمازحه، تسأل عن أولاده، ابنته التي ستتزوج ابن عمها، فيما إذا ما كان ابنه الذي يدرس الطب في مصر أو ألمانيا سيعود ليحضر الزواج، وتفكر أن تفاتح والده بطريقة «اخطب لابنتك ولا تخطب لولدك»، فتبحث عن الشجاعة لتقول له، حان الوقت ليكمل نصف دينه ويعود لدراسته مع عروس تتمنى أنت أن تكون ابنتك، فأنت تعرف الشاب وسيرته الحسنة، تتواعدان على لقاء في مجلس أحدكما بعد صلاة العشاء، هذه المشاعر وأشخاصها كانت محور حديث رئيس الوزراء والمواطن، إنه ليس حب الفريج والحي القديم، وإنما حب من سكن الفريج .
نحن في المدينة المنورة ومكة المكرمة لم تبقَ لنا أحياء قديمة، زحفت عليها عمارة الحرمين، فانتشرنا في أطراف المدينتين المقدستين في أحياء لا تمت للقديم بصلة، شيء مشوه اسمه مسكن يصله ماء وكهرباء، أهالي جدة والرياض وأبها «وهي المدن السعودية التي سكنتها»، تركوا أحياءها القديمة بيدهم لا بيد عمرو، بل إنهم عاشوا هجراً متتالية، كانت أولى هجراتهم خارج السور نحو أحياء جديدة بنيت في الستينات، ثم تركوها نحو أحياء أحدث، والآن يتركونها نحو أحياء أحدث وأحدث، لكنها أبعد عن المدينة القديمة وروحها .
حتى الآن، نجت البحرين من هذا «التطور» الكاسح، فلا تزال كثير من عوائلها تسكن في أحياء الستينات والسبعينات، وقليل منهم لا يزال يسكن في أحيائها الأقدم كالمحرق، التي تعادل «جدة البلد» عندنا، وقد أحسنت بلديتها صنعاً بمحاولة إحيائها من جديد بتطويرها وتجميلها لجذب المطاعم والمقاهي إليها، ناهيك عما تفعله وزيرة ثقافة البحرين الشيخة مي الخليفة بتحويل مبانيها التاريخية إلى معالم حضارية. لقد حان الوقت أن ندعو في السعودية رؤساء البلديات خاصة أولئك الذين درسوا تخطيط المدن والتطوير الحضري في جامعات أمريكية لفتح كتبهم التي علاها الغبار، والتخطيط لإعادة المواطنين إلى أحيائهم القديمة وليست بقديمة، وذلك بتحسين الخدمات فيها، وفرض قواعد التخطيط السليم «الذي درسوه في أمريكا»، والذي يحدد المناطق التجارية وتلك السكنية، نريد العودة إلى «فريج العمامرة»، ولكن بدون ورشة إصلاح سيارات عن يمين المنزل، ومعمل لصنع الطرشي البلدي اللذيذ على يساره.
المصدر: مجلة روتانا