رئيس مركز الأهرام للترجة والنشر ، حاصل على دكتوراة الفلسفة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة 1992
ما أن امتلأت معظم الميادين وكثير من الشوارع بعشرات الملايين المؤيدين لتفويض مؤسسات الدولة لمواجهة العنف والإرهاب، حتى خرج مئات من أعضاء جماعة «الإخوان» لقطع الطريق عند النصب التذكاري في شريان شديد الحيوية شرق القاهرة والتحرش بقوات الأمن والاعتداء على الأهالي.
بدأت تلك العملية في الساعة الأخيرة من يوم الجمعة 26 يوليو الذي دخل التاريخ مثله مثل اليوم نفسه قبل 57 عاماً عندما استجاب الرئيس جمال عبد الناصر لإرادة الشعب وأعلن تأميم شركة قناة السويس العالمية.
ويجمع بين 26 يوليو في عامي 1956 و 2013 أنه يوم تجلت فيه الإرادة الشعبية واضحة لا لبس فيها وقوية يصعب كسرها. وعبرت هذه الإرادة عن أغلبية شعبية هائلة في الحالتين رغم الاختلاف الكبير بينهما زمناً وسياقاً. ومثلما كان حضور هذه الأغلبية ضامناً لانتصار الإرادة الشعبية على الاستعمار عام 1956، يمثل وجودها الآن وتجسدها على الأرض حماية من شبح الحرب الأهلية الذي بدا لكثيرين أنه خيم على سماء مصر في لحظات عدة بين انتفاضتي 25 يناير 2011 و 30 يونيو 2013، سواء حين اشتد الاستقطاب المصنوع بشأن قضية هوية مصر، أو عندما تفاقم الانقسام المترتب على سياسة الرئيس السابق محمد مرسي وجماعة «الإخوان» وخاصة عقب الإعلان الدستوري الصادر في 21 نوفمبر 2012.
وفي وجود هذه الإرادة القوية يبدو مغالياً بل مفارقاً للواقع، الجدل المثار الآن حول احتمال نشوب حرب أهلية؛ ففضلا عن عدم توافر المقومات المجتمعية لمثل هذه الحرب في المجتمع المصري بشكل عام، أصبح المجتمع كله تقريباً في جانب وجماعة «الإخوان» وتنظيمات متطرفة محدودة في الجانب الآخر.
فقد أصبح شبح الحرب الأهلية اليوم في أبعد موقع له منذ أن أطل الانقسام «المدني الديني» برأسه في مارس 2011، رغم أن العنف اليومي الذي تشهده مصر منذ عزل مرسي يوحي بغير ذلك ويرسم صورة مختلفة، أو بالأحرى يُستخدم لخلق هذه الصورة وترويجها في المجتمع الدولي بطريقة منهجية منظمة عبر أدوات الاتصال التي تملكها جماعة «الإخوان» وتنظيمها العابر للحدود.
ولم تكن مصادفة أن يُقتل نحو ثمانين شخصاً في الاشتباكات التي حدثت في منطقة النصب التذكاري، في الوقت الذي كانت الكاميرات تنقل إلى العالم صوراً حية مُبهرة لعشرات الملايين من المصريين في مختلف محافظات مصر يعبرون عن إرادتهم ويفوضون جيشهم وشرطتهم لمواجهة العنف والإرهاب. فقد افتعل مخططو أعمال العنف في جماعة «الإخوان» تلك الاشتباكات مع الأهالي والشرطة لخلق صدام دموي يجذب الكاميرات ويغطي على المشهد الشعبي الذي يندر مثله في التاريخ منذ أن دخل العالم «عصر الجماهير».
لكن شتان بين مشهد الجموع الشعبية الهادرة التي شملت المجتمع المصري بمختلف مكوناته وفئاته الاجتماعية بلا استثناء تقريباً، ومشهد الاشتباكات المصنوعة التي استهدفت إراقة دماء للاتجار بها واستخدامها أداةً لتصدير صورة توحي بأن مصر تقف على أعتاب حرب أهلية.
وليست أعمال العنف المتفاوتة التي تحدث يومياً بشكل منتظم منذ الخامس من شهر يوليو الماضي إلا جزءاً من الخطة التي تستهدف رسم هذه الصورة سعياً إلى توسل تدخل دولي ضاغط على الإدارة الانتقالية الجديدة في مصر.
غير أنه إذا كان لنزول نحو ثلاثين مليوناً إلى الميادين والشوارع في 26 يوليو الماضي، وللمرة الثانية خلال شهر واحد، من مغزى رئيسي فهو أن مصر لم تعد منقسمة وأن الاستقطاب صار محدوداً ومحصوراً في تداعيات الصراع السياسي الذي انتهى بعزل سلطة «الإخوان» واستعادة الشعب سيادته رغم دعوات الاحتراب التي يوجهها بعض قادة «الإخوان» يومياً.
فلم يعد هناك انقسام في المجتمع بعد أن انكشفت هذه الجماعة وفقدت التأييد الذي نالته من فئات اجتماعية عدة حين كانت مُطاردة أمنياً وقبل أن تُختبر وتظهر حقيقتها واضحة أمام من سبق أن تعاطفوا معها. وحين تكون أغلبية كبيرة من المجتمع موحدة ومصممة على إنقاذ بلدها من هيمنة جماعة كان سقوطها ذريعاً، وتفقد هذه الجماعة أي ظهير مجتمعي أو دعم شعبي، ينتفي خطر الحرب الأهلية وربما تصبح أقرب إلى الخرافة.
والثابت أن مثل هذه الحرب لا يحدث إلا حين يفقد مجتمع منقسم بشدة القدرة على تجسير الفجوة بين فريقين متكافئين يحظى كل منهما بدعم كبير من فئات رئيسية في هذا المجتمع، وبعد أن تضعف الدولة وتفقد سيطرتها بشكل كامل أو تتفكك أو تسقط مؤسساتها.
والحال أن الوضع في مصر اليوم بعد 30 يونيو، وخاصة منذ 26 يوليو، يبدو معاكساً لهذه الحالة التي تستدعي حرباً أهلية. فقد ثبت أن المجتمع موحد إلى حد كبير ومتماسك بما يكفي، وأن الاستقطاب حول هوية مصر ليس إلا غطاءً لصراع لا صلة له بالدين، كما استعادت الدولة عافيتها وتلاحمت مؤسساتها الرئيسية، فضلا عن المصالحة التي حدثت فعلياً بين المجتمع ومؤسسة الشرطة.
غير أن استبعاد احتمال هذه الحرب لا يعني التقليل من الخطر الذي يواجه مصر، ويمثل تهديداً كبيراً للاستقرار فيها، نتيجة إصرار جماعة «الإخوان» على مواصلة أعمال العنف من أجل إسالة دماء تتاجر بها وتستجلب عن طريقها ضغطاً دولياً. ويحدث ذلك عبر الخلط الحاصل بين التظاهرات السلمية والمسيرات العنيفة التي تقطع الطرق وتعتدي على الأهالي من ناحية، وبين الاعتصام السلمي واحتلال مكان وتحويله إلى مركز للتخطيط لأعمال العنف والإرهاب والتحريض عليها.
ولأن الضغط الدولي يقّيد قدرة الدولة على استخدام أدواتها الأمنية بالحزم اللازم والقوة الضرورية لتوفير الحماية من الاعتداءات خلال مسيرات «الإخوان» التي صار العنف سمة ملازمة لمعظمها، لا يجد الأهالي بديلا عن حماية أنفسهم ومحالهم التجارية بأنفسهم، مما يؤدي إلى حدوث اشتباكات متفاوتة في حجمها وآثارها.
ورغم أن هذا العنف الأهلي متنقل وليس مركزاً في مناطق بعينها ولا يتجاوز أثره الخسائر التي تحدث خلال الاشتباكات، فهو يظل عائقاً أمام استعادة الاستقرار إلى أن تظهر نتائج التكليف الذي أصدره مجلس الوزراء الأربعاء الماضي لوزارة الداخلية لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإنهاء العنف والإرهاب. وعندئذ تستطيع مصر الانطلاق لإكمال خطوات خريطة المستقبل الجديدة التي تشمل تحقيق الأمن وتحريك الاقتصاد المتعثر وتسكين الآلام الاجتماعية التي يعاني منها كثير من فئات المجتمع وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية خلال فترة لا تتجاوز تسعة أشهر مضى منها شهر حتى الآن.
المصدر: صحيفة الإتحاد