منذ سنوات عدة، ومصطلح «الاستدامة» بدأ ينتشر بشكل كبير، إلى أن دخل في معظم شؤون الحياة، إلا أن أبرزها على الإطلاق كان «الاستدامة البيئية»، و«التنمية المستدامة» و«استدامة المدن»، وإمكانية خلق مدن تعتمد بشكل كامل على المباني الخضراء، ومصادر مختلفة للطاقة كالشمس لتوفير الكهرباء، واستخدام أنواع جديدة من الإضاءة، لتساعد أيضاً على الحد من هدر الطاقة، إضافة إلى الخطط المتعلقة بالحد من هدر المياه.
دبي كانت واحدة من المدن العربية التي رفعت شعار الاستدامة منذ سنوات، وعملت على تحقيقه، وهي اليوم في طريقها الصحيح إلى تطبيق معايير الاستدامة في كل قطاعات الحياة، في الوقت الذي لم تزل فيه بعض المدن العربية والعالمية تنادي بالاستدامة، وترفعها شعاراً فقط دون التطبيق.
«البيان» استغلت فرصة وجود عدد من المختصين في المباني الخضراء، وتحقيق الاستدامة خلال مؤتمر مدن المستقبل الذي استضافته بلدية دبي، للتعرف إلى ما إذا كانت «الاستدامة» مجرد مصطلح أو شعار ينادى به، دون أن يتم تحقيق الكثير من مفاهيمه، وما إذا كانت هذه الاستدامة ستمتد إلى المباني التي تم إنشاؤها في عهد ما قبل المباني الخضراء ومفاهيم الاستدامة، وما إذا كانت الدول العربية كافة قادرة على تحقيق هذا المصطلح.
تخطي الصعوبات
«دبي مصرة على التصدي للتحديات والصعوبات المتمثلة في الاستخدام الجائر وغير المستدام للمصادر الطبيعية، والحفاظ على مكانتها بوصفها واحدة من أكثر مدن العالم تنافسية، للوصول بها إلى مدينة المستقبل ذات الطراز العالمي دون منافس»، هذا ما أكده المهندس حسين ناصر لوتاه المدير العام لبلدية دبي، ما يتطلب من وجهة نظره، إعادة تقييم أفضل الممارسات والمعايير التي تساعد على الارتقاء بمدينة المستقبل، والاستفادة من أفضل الممارسات العالمية في مجالات الاستدامة.
وأوضح المدير العام لبلدية دبي أن الارتباط الوثيق بين الإنسان وبيئته واعتماده على مصادرها الطبيعية، واستخدامه الجائر وغير المستدام لهذه المصادر، يستوجب التخطيط الجيد للمستقبل، ووضع معايير واضحة للبيئة الحضرية، من خلال تبني حلول وأدوات صديقة للبيئة، تمنحها فرص الاستمرارية والاستدامة.
مؤكداً أن ذلك من شأنه أن يحقق التوازن البيئي في المدن المعاصرة، ويخلق نوعاً من الانسجام بين الإنسان وبيئته، وتكون المسؤولية مشتركة بين سكان الأرض كافة، وبين وزاراتها، وبلدياتها، ومراكزها البيئية لحل أزمة المدن، ذلك الحل الذي يكمن في بناء مدن المستقبل الخضراء المستدامة، والذي يتلخص في «إدارة الطلب على الطاقة والطاقة المتجددة، وعلى المياه والأمن، وإدارة النفايات والمواصلات والسياحة والمباني الخضراء».
وأضاف لوتاه أن دبي باتت نموذجاً للتطور والارتقاء واستدامة رفاهية العيش، وهي المدينة العالمية بكل المقاييس، لا سيما في ظل اتباعها العديد من المشروعات والمبادرات التي من شأنها تحقيق الاستدامة، والحفاظ على البيئة، مثل تبنيها قانون المباني الخضراء الذي سيعمل على تحويل كل المباني إلى مبانٍ صديقة للبيئة تعتمد على الطاقة الشمسية، وعلى أنواع خاصة من الإنارة والعوازل التي ستقلل من استغلال الطاقة، إضافة إلى ترشيد استهلاك المياه، وقد بدأت الإمارة بالفعل بالاستخدام الأمثل للمياه، لا سيما في إعادة استخدام مياه الصرف الصحي في ري الحدائق العامة التي تتبع البلدية، وكذلك النباتات الموجودة في الشوارع والطرقات.
مدينة خضراء
المهندس عبد الله رفيع مساعد المدير العام لبلدية دبي لقطاع الهندسة والتخطيط أشار إلى أن دبي مدينة خضراء، ويمكن إطلاق المدينة الذكية عليها في الوقت نفسه، إذ إنها مدينة تعتمد الاستدامة في نواحٍ ثلاث: «الاقتصادية، والاجتماعية، واستهلاك الطاقة»، موضحاً أن العمل يجري في الإمارة لأجل توفير 30% من الطاقة، على الرغم من أن أغلب المعتمدين على المباني الخضراء وثقافة الاستدامة هم من المتطوعين، أي من غير الملزمين بذلك.
إلا أن هذا لم يعد كافياً للإمارة، لذلك سيبدأ تطبيق القانون المتعلق بالمباني الخضراء بشكل إلزامي خلال العام المقبل، بعد أن تم تنفيذه على المباني الحكومية، موضحاً أن البلدية تعمل على نشر ثقافة الأبنية الخضراء منذ سنوات عدة، ونشر الوعي ووضع القوانين، وتوضيح الأطر الخاصة بها، إذ إن تلك القوانين تحتاج إلى مواد خاصة، وتتطلب وعي العاملين في مجال الإنشاءات جنباً إلى جنب مع الملاك.
ونوه بأن بلدية دبي أنشأت مبنى بكامله يعتمد على مواصفات المباني الخضراء، وهو سوق الفهيدي في بر دبي، وكان الهدف منه توفير 30% من الطاقة، إلا أن النتائج أظهرت أن المبنى يوفر 43% من الطاقة، وهو أعلى بكثير مما كان متوقعاً.
وحول جهود البلدية في مجال توفير المياه، أوضح رفيع أن الإجراءات التنظيمية لقانون المباني الخضراء تتمحور حول فصل المياه إلى جزأين، 35% منها يعاد تدويره ليتم استخدامه في الري، أو في الحمامات العامة، كما جرى في سوق الفهيدي، وتستخدم أيضاً في التبريد، و65% المتبقية تتم معالجتها وإعادة تدويرها.
وعن الأبنية الحالية التي تم بناؤها قبل عشرات السنوات، وكيفية تحويلها إلى مبانٍ خضراء، أكد رفيع أن الأبنية الحالية كثيرة، وهي بالفعل لا تطبق معايير المباني الخضراء، لكنها ليست مشكلة دبي فقط، وإنما مشكلة العالم أجمع.
لكن في بلدية دبي بدأ فعلاً النظر في هذه الأبنية التي تستهلك ما يقارب 70% من الطاقة بسبب أجهزة التكييف التقليدية، والسخانات، والإضاءة وغيرها، وعلى الرغم من إقناع المصممين والاستشاريين والمقاولين الذين يعملون على الأبنية المستقبلية بجدوى الأبنية الخضراء مستقبلاً وفائدتها على المدى الطويل، فإنه لا يمكن إقناع ملاك المباني الحالية بجدوى ذلك، ما لم يروا نتائج ملموسة، حتى لو شُرح لهم أن التغيير سيوفر عليهم 21% من تكاليف الطاقة، لكن إقناعهم أيضاً مشكلة عالمية.
وأوضح أن لأجل هذا الغرض أنشأت البلدية شركة الاتحاد، وهي ستعمل على التواصل مع أصحاب المباني الحالية، وتقترح عليهم التحسينات، والدفع عنهم مقابل تلك التحسينات والتغييرات المطلوبة، وفي المقابل، تحصل منهم تلك المبالغ من خلال ما توفره هذه المباني من طاقة، مؤكداً أن هذا الأمر سيجعل الملاك يدركون بالفعل أنه لا يتعين عليهم ضخ أموال كبيرة كما يهيأ لهم، وفي ما يتعلق بالمواد التي تحقق الاستدامة وغيرها من المواد.
أشار إلى أن البلدية راعت هذا الأمر منذ البداية، وقامت ببناء قدراتها الخاصة، عبر فحص العينات والمكونات في مختبر دبي المركزي التابع للبلدية، وإعطاء الشهادات التي تؤكد مطابقة المواصفات لكل المواد المستخدمة في المباني الخضراء، سواء كانت منتجة محلياً أو مستوردة من الخارج.
ومن جهته، أشار عامر شحادة مدير العقود في «دايموند ديفلوبرز» للتطوير العقاري التي تشرف عليها دائرة الأراضي والأملاك في دبي إلى أنه سيتم العمل على الاستفادة من اتجاه الرياح لكل مبنى لتقليل الحرارة الناتجة عنها، ومن ثم ترشيد استهلاك الطاقة، وسيتوافر لكل مبنى أنظمة تحميه من التلوث والأتربة، مؤكداً أن واجب الشركة المطورة أن تلتزم بكل الوعود التي تقدمت بها للمستفيدين، إذ ستعمل على شرح كيفية تشغيل المدينة والتعامل مع الأجهزة الحديثة، وتعليم وتثقيف الجميع بأهمية الاستثمار في المباني الخضراء على المدى البعيد، وسيدرك بعدها التغييرات التي ستطرأ على فواتير الصيانة والطاقة، ما يجعله يهتم بمبدأ الاستدامة والمصادر المعززة للبيئة منذ مرحلة التصميم، وانتهاء بمرحلة تسلُّمه العقار حتى 50 عاماً.
مخاطر الكوارث
أمجد مدني أبشر مدير المكتب الإقليمي للدول العربية من مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث، يرى أن الاستدامة ليست مصطلحاً فقط، وإنما سياسة يمكن بالفعل تبنيها وتطبيقها، إذ إنه يرى أن الاستدامة محور من محاور تطور المدن وتقدمها، وأضاف «بدأنا، بوصفنا مكتب الأمم المتحدة للحد من الكوارث، نقدم آراءنا، ونحدد الآليات التي تساعد المدن والدول العربية بالذات على استخدام هذه الأليات لفهم الخطر الطبيعي وتقديره وتقييمه، من أجل دمج المخاطر والكوارث في التنمية المستدامة، لذلك شاركنا في مؤتمر مدن المستقبل لنقل هذه الخبرات والمفاهيم».
التخطيط والاستراتيجية الواضحة والخطط التنفيذية محاور مهمة
الدكتور أيمن عقلات رئيس قسم الدراسات والمراقبة البيئية في مديرية البيئة التابعة لسلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة في الأردن، أشار إلى أن الاستدامة هي عملية تغيير، وليست مجرد شعار، كما أنها في الوقت ذاته ليست سهلة يمكن تحقيقها «بكبسة زر»، إنما هي إجراء يتكون من مراحل عدة، الأهم هو التخطيط، والاستراتيجية الواضحة، ثم الخطط التنفيذية، بعدها تأتي أهم المراحل، وهي متابعة التنفيذ والتطبيق على أرض الواقع، مشيراً إلى أنه من الممكن وضع خطط، لكن الأصعب هو تنفيذها ومتابعة ذلك، من خلال توفير الموارد البشرية الصحيحة والمختصة، وبذلك تتحقق الاستدامة، شرط أن تسير جنباً إلى جنب مع التطور
وأضاف «أعتقد أن العالم العربي لا خيار أمامه الآن إلا الاستدامة، لأن العالم كله يسير بهذا الاتجاه، إلا أن أبرز المعوقات في العالم العربي الموارد، ودائماً المعوقات المادية هي الرئيسة التي من شأنها توفير التعليم المناسب والموارد البشرية المؤهلة للاتجاه نحو المدن المستدامة، إضافة إلى توعية الناس، على الرغم من أن الوعي بات أفضل بكثير من الأزمنة السابقة، وباتت أغلبية الشعوب تعي أهمية الاستدامة والاتجاه نحو الحفاظ على الموارد الطبيعية».
وحول المباني الموجودة حالياً التي تم بناؤها قبل وجود مفهوم البناء الأخضر، وخاصة المباني التاريخية، وإمكانية تحويلها إلى مبان خضراء تسهم في الاستدامة، أشار إلى أن التكنولوجيا لم تترك مجالاً للأعذار، فيمكن تحويل الإضاءة الموجودة بها إلى أنواع أخرى من الإضاءة الحديثة التي توفر في استهلاك الطاقة، وإدخال التكنولوجيا في كل النواحي الأخرى، كاستخدام الطاقة الشمسية، وغيرها من العوامل المساعدة، ومن ثم تحويلها إلى مبان خضراء قدر الإمكان.
وأشار إلى أن التحول إلى المباني الخضراء في الأردن وصل في عدد من المدن إلى ما نسبته 20%، أما عمّان والعقبة فقد وصلتا إلى ما نسبته 35%، كما أوضح أن تحويل تلك المباني القديمة والحالية إلى مبان خضراء لا بد أن يكلف مبالغ عالية، لكن بالنظر إلى المدى الطويل، سيقتنع الجميع بأهــميتها، وكيف يمكنهم استعادة ما تم دفعه لقاء تحويلها مباني خضراء.
رضا سلمان: المدن المستقبلية والمستدامة لها معايير خاصة
تحدث المهندس رضا سلمان مدير ادارة الصحة العامة والسلامة في بلدية دبي عن الاستجابة للكوارث والاستعداد للأزمات، مؤكدا ان المدن المستقبلية والمستدامة لها معايير خاصة، يتعين ان تكون مقاومة للتأثيرات الداخلية والخارجية، مما جعل موضوع الاستعداد والجاهزية للأزمات والكوارث، وموضوع الأزمات والكوارث يدخل في صلب عملية الاستدامة، فبنظره اذا لم يتوفر الاستعداد والتمرين والوعي والدخول الى كافة نواحي الحياة، سواء على مستوى القوانين والتشريعات والمواصفات، او على مستوى الفرق الميدانية، ورفع وعي واستعداد الناس، وتجهيز انظمة الإنذار المبكر في الأمن والبيئة والسلامة والحرائق والزلازل، كل تلك المتطلبات يتعين ان تكون في صلب موضوع الاستدامة والمدن المستقبلية.
وأشار الى ان بلدية دبي بدأت اعداد نظام ادارة الأزمات والكوارث باعتبارها عضوة في لجنة الأزمات والكوارث، التي تترأسها الشرطة، ونائبها الدفاع المدني، والبقية هم دوائر الدعم، وهم هيئة الطرق والمواصلات، مؤسسة الإسعاف، هيئة الطرق والمواصلات في دبي، هيئة كهرباء ومياه دبي، وهيئة الصحة، مؤكدا ان البلدية اسست فريق عمل لقياس وتحديد المخاطر التي تعنى بها عمليات البلدية، مثل الكوارث التي قد تتسبب في ارباك اعمال وعمليات البلدية، أو اذا ما كانت هناك حوادث تتسبب بها مرافق وخدمات البلدية، وقد تؤدي الى ارباك او نشوء حوادث، حيث استغرقت الدراسة سنتين استنادا الى منظومة الأمم المتحدة للمدن المستدامة والمقاومة والمستعدة للكوارث.
عامر شحادة: التركيز على المواد الصديقة للبيئة في البناء
أشار عامر شحادة مدير العقود في “دايموند ديفلوبرز” للتطوير العقاري والتي تشرف عليها دائرة الأراضي والأملاك في دبي، الى ان الشركة تنفذ حاليا بيوتا وشققا ومنطقة سكنية بالكامل، تركز على مفهوم الاستدامة، من خلال التركيز على المواد الصديقة للبيئة في مواد البناء، مؤكدا ان مالك كل عمارة او عقار فيها يمكنه تجنب تكاليف البناء الباهظة
المصدر: البيان