كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
شهدت بداية القرن الماضي الثورة الصناعية الثانية، وأساسها الإنتاج المتكرر، وأنا هنا أحاول أن أترجم مصطلح Mass Production الذي يعني إنتاج نفس القطعة آلاف المرات، وبنفس المواصفات في مصنع واحد، هذا النوع من الإنتاج فتح علوم التسويق والبيع والتمويل والتوزيع، وخلق وظائف وشركات، لقد غيّر طبيعة التجارة والتاريخ الإنساني للأبد.
وبالتالي كان كبار الموظفين، وتحديداً الرؤساء التنفيذيين هم القادمون من إدارة الإنتاج، ومن خلفية صناعية أو هندسية ممن ساهم في تطوير المنتج، في تلك الفترة كانت المنافسة قليلة، وبالتالي كان هدف الرئيس هو التخطيط لزيادة الإنتاج، طالما أن هناك مستهلكين ينتظرون في الطابور شراء المنتج، هذه الحالة باتت نادرة في زماننا، ولم تتكرر إلا في حالات قليلة، أذكر منها هواتف «الأي فون»، حينما كان العملاء يبيتون أمام المتجر، انتظاراً لوصولها، أذكر أيضا أجهزة اللعب «وي» الشهيرة، التي أنتجتها شركة الألعاب اليابانية نينتندو، وقد كان الزبائن يدفعون قيمتها مسبقاً، وينتظرون دورهم لاستلام جهازهم.
بعد الحرب الثانية، وفي أمريكا تحديداً، شهدت الشركات الصناعية منافسة شديدة، تعددت العلامات التجارية بدون اختلاف كبير يذكر بين المنتجات، فتراجع دور المهندسين، وتقدم رجال البيع لاعتلاء المناصب الإدارية في الشركات، بات البيع هو الكلمة السرية للنجاح، فالإنتاج مزدهر، والمخازن مليئة بالبضائع، والمستهلك مستعد للشراء، ولكن الاختيارات كثيرة، فكان البائع هو الملك، معركته المستهلك والموزع، مستخدماً أدوات البيع التقليدية «الشطارة» والتسهيلات.
بحلول الستينات، تعقدت الصورة أكثر، المنتجات كثرت، وكذلك الشركات، دخلت شركات وأفكار من خارج أمريكا، والأهم تشبعت البيوت بالمنتجات، فجاء دور رجال التسويق لقيادة الشركات، وظيفتهم إقناع المستهلك باستبدال سيارته التي لا تزال جيدة بأخرى أفضل، وغسالة الملابس بواحدة، لأن بها مزايا أكثر، الأصعب هو إقناع المستهلك بسلعة جديدة لم يرها من قبل، ولا فكر يوماً في أنه سيحتاجها، مثل التلفزيون! ما الحاجة له وهو لا يعمل إلا ساعة واحدة في النهار؟ ثم ما المتعة في مشاهدة فيلم على شاشة صغيرة، بينما أستطيع مشاهدته في مسرح مريح وعلى شاشة هائلة؟ وظيفة التسويق هي الإجابة عن هذه الشكوك، ثم إقناع العميل بشراء جهاز، يعلم أنه لا يزال يتطور ويتحسن.
امتلأت البيوت بالمنتجات، والمتاجر بالسلع، والمستودعات بمخزونات هائلة، وكذلك الدفاتر بأرقام لا تتوقف من مطالبات وديون وإيجارات وأرصدة ورؤوس أموال، ولاح شبح السؤال، ما وضعنا المالي؟ وكيف سنجمع أموالنا الطائلة من السوق؟ فجاء دور المحاسبين الذين صعدوا إلى الوظائف الكبرى في الشركات، عليهم فك هذه الكتلة الهائلة من الأرقام، وتقديم أرقام جيدة للملاك والمساهمين وكذلك للإعلام، حتى يتعزز سعر السهم في سوق المال.
هل قلت سوق المال؟ نعم وبالتالي جاء في أوائل القرن الحالي زمن رجال المالية، الذين يبيعون أصول الشركة في طريق خريص، ويشترون بها مواد خاماً على الورق في روتردام، ترتفع أسعارها 3 مرات، ثم يضخونها مع بضعة ملايين حصلوا عليها قروضاً من بنوك شقيقة، وبنك لم يسمع به أحد في جزر الكايمن، تضاف إليها تسهيلات بملايين أخرى، تجعل من قيمة الشركة مغرية لطرح كلها أو بعضها في اكتتاب عام، يعود على الملاك الأصليين بمئات الملايين، ويستمرون في تقليب الأرقام، إلى أن تأتي لحظة الحقيقة، فيدركون أنهم بحاجة للمدير المهندس الذي تركوه في بداية القرن، لينتج لهم سلعة تستحق أن يشتريها الناس، لتبرر هذا الحجم الهائل للشركة.
المصدر: مجلة روتانا