جمال الشحي
جمال الشحي
كاتب و ناشر من دولة الإمارات

زمن الكتابة قبل أن يكتب الذكاء نصوصنا

آراء

خاص لـ هات بوست:

لم نعد نخوض حربًا، بل نعيش علاقة حذرة بين الكاتب وأدوات الذكاء الاصطناعي. خطوة إلى الأمام، وأخرى إلى الوراء، في مشهدٍ لا يشبه سباقًا بقدر ما يشبه مفاوضةً صامتةً بين الخيال والآلة.

في زمنٍ يُكتب فيه النص بلمسة زر، يطل السؤال الذي يؤرق كل كاتب: هل فقدنا أصالة الكتابة؟ وهل أصبح هناك كاتب ما قبل الذكاء الاصطناعي وكاتب ما بعده؟

كان الكاتب القديم يكتب من عمق تجربته، بخيباتها وانتصاراتها، معتمدًا على حصيلته المعرفية وذائقته اللغوية. كان نصّه يحمل بصمة بشرية خالصة، تُضاف إلى الذاكرة الإنسانية لا إلى ذاكرة الخوارزميات. كانت الكتابة آنذاك ولادةً جديدة، لا استنساخًا لما قيل من قبل.

أتواصل يوميًا مع عدد كبير من الكتّاب، وألاحظ التغيّر في نصوصهم قبل الذكاء الاصطناعي وبعده، بل واعترافاتهم الخفية بأنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه تمامًا. حتى أولئك الذين يكتبون بأيديهم، يدفعهم الفضول لوضع نصوصهم في محادثة رقمية، فقط لمعرفة رأي الذكاء فيها. لأن الكاتب، حين يكتب، لا يكتب لنفسه فقط، بل للآخرين — واليوم صار الذكاء الاصطناعي أحد هؤلاء الآخرين.

أما كاتب اليوم، ومع تطوّر التقنيات، فقد أصبح موجّهًا للآلة، يتأرجح بين رغبة الإبداع وهاجس الإتقان. إنه يعيش زمن هندسة التوجيه، حيث تُصبح الكتابة أقرب إلى البرمجة منها إلى الإلهام. ومع هذا الاعتماد المتزايد، تسلّل إلينا نوع من الكسل الكتابي؛ لأننا نعلم يقينًا أن هناك من سيُكمل عنا البحث والتحليل والتعبير.

وهنا يطل السؤال المرير: هل يكفي أن تكون كاتبًا، أم يجب أن تكون أيضًا مهندسًا لغويًا ممتازًا؟ من هو الكاتب الحقيقي إذن؟ هل هو صاحب الفكرة، أم المراجع الأخير الذي يضع لمساته قبل النشر؟

ربما الكاتب الحقيقي في زمن الذكاء الاصطناعي هو من يملك التجربة لا الأداة، والشغف لا الخوارزمية، والأسئلة لا الأوامر.

لقد تجاوز التدخّل الآلي مرحلة التدقيق اللغوي، وصار يتسلّل إلى العصف الذهني، والتصميم، وحتى الكتابة ذاتها. وهكذا وُلد ما يمكن تسميته بـ النص الهجين — نصٌّ معدّل خوارزميًا يحمل في جيناته بصمات الإنسان والآلة معًا. كائن لغوي جميل لكنه بلا حمضٍ نووي، يشبه وردةً صناعية: أنيقة المظهر، بلا رائحة.

ومع هذا التداخل، يظهر مأزقٌ جديد: من يملك النص؟ هل للآلة حقّ أدبي؟ هل يمكن أن تطالبنا يومًا بنسبةٍ من الأرباح لأنها “صحّحت” أسلوبنا؟ هذا ليس خيالًا، بل تنبؤ صغير قد يتسلّل من مختبرات البرمجة.

الأخطر من ذلك أن الذكاء الاصطناعي صار مرآةً لضعفنا الإبداعي. يسجل محاولاتنا الفاشلة، ويحفظ كل تعديل نجريه، ويعرف مستوانا الفني والثقافي بدقة الصندوق الأسود. ولست أستبعد أن يأتي يوم يُصدر فيه كتابًا بعنوان: «الصندوق الأسود: ما لا تعرفونه عن الكاتب الفلاني.»

وهنا تكمن المفارقة الأعمق: نحن نعترف للآلة بما لا نجرؤ على قوله للبشر. نضع نصوصنا أمامها، نطلب منها طلباتٍ غريبة: أن تقول رأيها بصراحة، أن تُحسّن المحتوى، أن تضع لمساتها الأخيرة — ونحن نقبل كل ذلك برحابة صدر، بل ونشكرها أحيانًا. ربما لأن الصمت الرقمي أجمل من النقد البشري.

لكن حين يسألنا قارئ: “هل كتبتَ هذا بنفسك؟” — نرتبك، أو نجيب بثقةٍ زائفة: “بالطبع.”

لماذا؟ لأن الآلة لا تحكم علينا، ولا تُقلّل من قيمتنا الإبداعية. إنها رفيقٌ آمن نبوح له بضعفنا الكتابي دون خوفٍ من السخرية أو التشكيك. بينما القارئ البشري — ذلك الكائن الذي نكتب له أصلًا — قد يسحب عنّا لقب “الكاتب” إن علم أن الآلة لمست نصّنا.

وهكذا، صرنا نعيش ازدواجية غريبة: أمام الآلة: صادقون، ضعفاء، محتاجون. أمام البشر: واثقون، مستقلّون، أصحاب بصمة.

فأيّ الوجهين هو الكاتب الحقيقي؟

في النهاية، يظل الذكاء الاصطناعي أداة وتقنية مساعدة، لكنه يظل موظفًا مطيعًا للعقل الذي يوجّهه، لا سيدًا عليه. ومع ذلك، يبقى هناك سؤالٌ أخير ينتظر الإجابة: هل تعرفون كاتبًا اليوم يستطيع أن يقول للآلة بثقة: لستُ بحاجة إليك؟