أتممتُ هذا العامَ عشرين سنةً في مضاربِ “بني ياس”، مرَّت دون أن أشعرَ بطـُـولها وبما أخذتْهُ من شَرخ الشباب، وهكذا هي الأمكنةُ الخلاّقةُ والوَدودة، ومنازلُ الحياة الرّخية، والأوطانُ التي يحملكَ الاستقرار فيها على نقضِ خميتِكَ المتنقلةِ ورمي أوتادها، وتسريح إبِلِ الرحلة وطمْرِ رماد النار.
وإذا ما حانت تلك الساعةُ التي تُقرر فيها المُضيَّ في خيار الاستيطان فيما كنتَ تعتبرُه مَهجرا وأضحى وطنا، فلا مفرَّ من إفراغ صناديق الذكرياتِ التي أعياك حِملُها لعقود لتستوطنَ معك على رفِّ تتأمله يوميا كلَّما عدتَ من عملك لتنظرَ من خلالها إلى الطريق الطويل الذي قطعتَهُ حتى تصل بك الرحلةُ إلى أكثرِ الواحاتِ رخاءً وطُمأنينة.
مذ أبصرتُ الحياة لم تستقرَّ أعمدةُ خيمتي في أي من عرصاتِ تلك الرمال المتحركة التي حاولت جاهدا غرسَها فيها، فأبقيتُ على عزم الرحلةِ في نفسي، فجربت المدنَ والبلدات، وجُبت الصحارَى وشواطئَ البحار بحثا عن مضاربَ تُشبهُ تلك التي لفَظَتني، حتى أتى القدرُ المحتومُ الذي رمى بي وسط واحاتِ قبيلةِ بني ياس ومضاربِها، وما أدراك ما بنو ياس.
لم أكن حتى تلكَ الساعةِ التي قَدِمتُ فيها إلى هذه المضارب لأفهمَ عبارةَ أستاذي الكبير فيلسوفِ الصحراء المتفرد إبراهيم الكوني، تلك العبارة التي أخذ يُكررُها على مسامعي في كل لقاءٍ معه، لسعادتِه بتوقفِ رحلتي واستقراري قربَ واحاتِ لِيوا.. “الصحراءُ هي الصحراء أينما وُجدت.. وإنسانُ الصحراءِ هو ذاتُه، أينما وجدتَهُ وجدتَ الأصالةَ والحفاوة”. لقد كان يحرضني على البقاء والعيش والاستمتاع بهذه الصحراء التي يرى أنها تنطوي على روحِ الصحراء الكبرى بكل ما تحملُهُ من أخلاقٍ وكرمٍ ونجدة.
ورغم سعادتِي بمَقْدَمِي وبالتجربة الجديدةِ حينها، فإن ما مضَتْ عليه حياتي السابقةُ كان يُخبرني أني لا محالةَ لن أمضي بين واحاتِ ليوا وجزر أبوظبي العذراء وحدائق زعبيل أكثرَ من عامين أو أزيدَ بقليل، مثلَ ما حدث لي في بقية اﻷمكنةِ التي تعلقتُ بها ولم تتعلق بي، لكن السنواتِ التي مضت بسرعةٍ كانت حُبلى بغيرِ ذلك، وكان المكانُ يُمسِكُ بي دون أن أكونَ عازما على التمسكِ به بسبب نيتي مواصلةَ الترحال بحثا عن وطن، وكان يقيني أني مُفارقٌ ما إن يسأم مني المكان الذي أحسنَ وِفادَتي.
كانت عروضُ العمل المتوفرةُ لي غربا، والتي كان قُرنائي يتسابقون إليها تُحرِّضني دوما بمُغرَياتٍ على تجربةِ أمكنةٍ أخرى، خاصةً في عواصم الغرب التي كانت تَعِدُ أمثالي بانتهاء رحلة شقائهم ما إن يَصلوا إليها بمنحهم أوطانا بديلة، لكن كان عشقُ الصحارَى وسحرُ البَداوة التي طبعتني بطابعها قدَرًا يَثنيني دوما عن الشروع في تلك النزعةِ أو الاستجابةِ لنداءاتها، فلا أتصور حياةً بلا شمسٍ ولا بدوٍ أمثالي، ولا أتصور بناءَ ذكرياتٍ ولا تربيةَ أطفالٍ على قيم كالتي أنبتتني خارج نطاق عواصمِ الرمال، فضلا عن أن مَهجري وصحرائي الجديدةَ وجدتُهما قد بذّا جميعَ تلك الأمكنةِ وتفوقا عليها، ولو عاشَ الطيب صالح في وقتنا، لربما كان خيارُهُ “موسمَ الهجرة إلى الجنوب”، بدل “موسم الهجرة إلى الشمال”، حيث نرى اليوم ملايينَ من أهل الشمال الذين هاجر إليهم يُلقون عصا الترحال نحو واحاتِ ليوا ويتمترسون حول حدائق زعبيل لتحقيق أحلامِهم التي استعصت عليهم في مدن الثلج والضباب، ولطالما ضحِكتُ من أعماقي كلما تذكرتُ الخذلان الذي نال المتنبي لدى كافور الذي لم يقدره حق قدره، ولو أنّ أبا الطيب عاش في زماننا هذا وحل بهذه الديارِ التي تُقدر الموهوبين وتنزلهم منازلهم، لما نسج من شعر المديح في غيرِها ما نسج؟
لم تلفِت اﻷبنيةُ الحديثة الشاهقة والفريدةُ انتباهي، ولا الشوارعُ الفسيحة ولا التقدمُ والرخاء بقدرِ ما أخذت أنظر وأسبر أغوار المكان وروحه وفلسفته، رغم معرفتي الجيدة به قبل مَقدمي، واعتلتني الدهشةُ في أول اتصال لي بـ”أهل الدار”، فرأيت رحابةَ صدرٍ وتودد وتواضع نفس، وسمو أخلاق، وما يندُر رؤيتُه في مكان أو في مجتمع آخر، وكنتُ أعتقد أن الأمر محصورٌ في دائرة من يخدمون المجتمع ممن نتصل بهم ونتواصل معهم، حتى رأيت ما هو أكثر من ذلك طيلة سنواتي عيشي، حين رأيت شيوخ القبيلة ورموزها، إن في مناسباتٍ حضرتها أو في حياتهم العامة، فرأيتُ من التواضع ما يدرّس حين رأيت حكاما بلا مواكب وصولجانات تتقدمهم وتُوقف حياة الناس لينعموا بمزايا السلطان، رأيتُ رؤوس القبيلة في الشوارع وفي الأسواق وفي شتى المناسبات، يقودون سياراتهم دون مواكب ولا عباءات مطرّزة ولا حرس، ورأيت في أعين الناس السعادةَ الغامرة برؤيتهم على تلك الصورة الإنسانية.
رأيناهُم على موائد العامة الذين لم يكُن ليخطر ببالهم جلوسُ رأس الدولة القرفصاء بينهم لتناول تمراتٍ وماء مثلهم للإفطار معهم في رمضان في باحات المساجد، وشاهدناهم معنا في المقاهي مع ضيوفهم، وأمام مدارس الطلاب وقارعة الطريق، ورأينا دماثتهم مع من يريد التقاط صور معهم حين يُعطونه من الوقت ما شاء حتى لا يستعجل ويفوت اللحظة بصورة دون ما تمنى، أما عن قصص وفائهم فقد ذهبت مضرب مثل لا يتسع المقامُ للإتيان على ذكرها جميعا.
ثم رأينا أفعالَهم حين تنزل النوائبُ بمجتمعاتهم، إذ يستنفرون أنفسَهم كأسود في معركة ضارية لحماية المجتمع من الأوبئة والكوارث، ناهيك عن إحاطتهم لنا إحاطةَ السوار بالمعصم لحمايتنا من شياطين الإنس إذا ما حاولوا التسلل إلينا لبيعنا أوهام الأيديولوجيات أو المخدرات أو نشر الجريمة والتعدي على النفوس، أو أيا كان مما قد يكدر على المجتمع حياته ورفاهيته وسعيه نحو الكمال، ولقد حاول جميع شذاذ الآفاق اختبارهم لكنهم كانوا لهم بالمرصاد بما أدهش العالم.
ولا غرو، فإن ما تعيشُه هذه القبيلة شيوخا وأفرادا لم يأتِ عبثا، فقد تربت على يديْ معلمٍ عرفناه جميعا طَوال عقود، المعلم الذي جمع شتاتها وبنى أساسَ وجودها، وأسس لها كيانها ورسخ أخلاقها ووجدانها، وخط لها طريق صعودها وفلاحها، ذلكم الشيخ زايد طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته، والذي علا ذكره حيا بما قدمه، وميتا بما رسمه وسار عليه خلفاؤه، حتى صدق فيه قول أبي الحسن اﻷنباري:
عُلُوٌّ في الحياةِ وفي الممات
لَحَقٌّ أنتَ إحدى المُعجزات
فتَحَ بنو ياس مرابعَهم ورفعُوا أخبيةَ خيمِهم وأوقدوا نيرانَ الوِفادةِ والترحاب بالنازلين بهم كما لم تفعل العرب قط في غير الهجرة النبوية التي فتح الأنصار فيها بيوتَهم للمهاجرين، فتوافد الناس من كل فج إلى قبيلةِ الكرم هذه التي لم تسمع العربُ في حاضرها بمثلِها، قبيلة ساوت النازلين بها بأبنائها في الفرص والحقوق، وفي نفاذ القانون والنظام، فأضحت وطنا لمن لا وطنَ له، وأنْست آخرين أن لهم أوطانا تركوها لعظيم غِبطتِهم بالقِرَى وحُسن الوفادة وإطلاق أيديهم للتسابق نحو المجد والثراء المتاح أمامهم، بل ذهبت بعيدا حين ذلّلت الصعابَ أمام المميزين منهم ممن رسخوا أقدامَهم فيها، بمنحِهم إقاماتٍ ذهبيةً، بل حتى جنسيتَها لأولئك الذين رأت فيهم إضافةً إلى نسيجها المجتمعي المميز.
عشرون عاما مرّت كلَمْحِ البصر في هذه المضارب الخِصْبَةِ التي تُديرُها أيدٍ نديةٌ بالكرم وقلوبٌ عامرةٌ بالتواضع، وهِممٌ لا تعرف السكونَ إلا بملامَسةِ أعلى سنام المجد. فبعد سنواتٍ تبدّت لي ملحمة رجال واحات ليوا كأنها روايةٌ مكتوبة أمامي، فهم بالنسبة لمن لا يَعرفهم أناسٌ وُلدوا وفي أفواهِهم ملاعقُ من ذهب، بيْدَ أنهم في قرارة أنفسِهم ولِمن عرفَهم عن قرب كما رأينا، رجالٌ ونساءٌ أخذوا العزةَ من شموخ نخيلهم الباسقة التي لا ينزلون منها بثمارها حتى يتقاسموا مع جيرانهم ما جادت به، وحينما غادروا تلك الواحات تركوا كلَّ متاع خلفهم باستثناء تلك الأصالةِ والكرم والأخلاق التي ستصبح تاليا شريعةً ونهجا في حياتهم.
علمتنا الحياةُ تحت ظلال حُكمِ شيوخ ياس التسامحَ والترفعَ عن النقائص، وفتْحَ أحضانِنا للغرباء ونسْجَ الأخوةِ والصداقة مع المُغايرين لنا، وحمتنا قوانينُهم من شرور المُتربصين بنا، ورسخت لنا من الحريات الطبيعية ما يفوق حاجةَ كلِّ إنسان طبيعي حتى لم يعد أمام من يريد النجاح عائقٌ غيرَ نفسِه وتقصيرِه.
بنو ياس ملحمةٌ تاريخيّةٌ في عصرنا لا يرضى أهلها بما دونَ النجومِ مرتبةً ولا بأقلَّ من المريخ منزلةً، عشقوا صعودَ سُلمِ المجد حتى أنهوا مراتبَه، إذ لا ينافسون غيرَ أنفسِهم التوّاقةِ إلى المعالي، ولا يتفوق عليهم غيرُ أرواحِهم التي لا تعرفُ الكلل، وهي مجبولةٌ على تحقيقِ كل ما يضعونه نصب أعينهم هدفًا بتفانٍ وإتقان.
بنو ياس ملحمةُ رجالٍ سيُخلِّدُها التاريخُ بعد أن كتبت نفسها أمام العالم الذي لم يعد يملك غيرَ مُحاكاتها والنسجِ على مِنوالِها، وكنت أتوقعُ أن أكتبَ هذه السطورَ حينَ أغادرُ هذه المضاربَ والواحات وفاءً لها، لكنني وقد أصبحتُ جُزءًا منها، لَمْ أشعُرْ إلا والقلمُ بين أناملي، أخطُّ به هذه الذكريات والنظرات والرؤى بعد عقدين كشاهدٍ عليها، امتنانا على ما نعمت به وأسرتي بين ظهرانيهم، بعد أن تمكنتُ من تحقيقِ استقرارٍ ساعدني على تدشين مشروعي الروائي عن أدب الصحراء الكبرى، وفي بناء صداقات استثنائية، والعيش في أفضل مكان على كوكب مضطربٍ أخذت الكوارث والأيديولوجيات واﻹرهاب والحروب تمزقه إربا إربا، دون أن أزعم أني وفيتُهم حقهم.