مايجري في عالم القرن الحادي والعشرين وإعلامه المعولم والمفتوح، وارتفاع مناسيب الحرية السياسية في كثير من بقاع الأرض، وتحرك جيل الشباب في عديد من الاماكن والبقاع بهدف امتلاك زمام القرار بشأن مستقبلهم وتأثرهم بتجارب نظرائهم في الثورات من حولهم، والانتشار الكثيف لوسائل التكنولوجيا الداعمة والمساندة لطلباتهم، والمزاج العالمي الكاسح ضد كل أشكال الحكم التسلطي والفردي، وانكسار حاجز الخوف أمام الشعوب (العربية) في مواجهة أنظمتها القمعية وسقوط هيبة هذه الأنظمة، حتى أصبحت مسألة التغيير الديموقراطي ونيل الحريات هي الشغل الشاغل للشعوب العربية لتعلن ولادة وعي سياسي جديد بين شرائح واسعة في المجتعات العربية , فكانت موجة الاحتجاجات تنتقل من قطر عربي لآخر لتهز معها عروشا كانت تعتقد أنها صلبة وأنها لن تمس في يوم من الأيام ! كل ذلك وغيره يحتم اعادة وضرورة النظر والتأمل في أطروحة مفهوم الاستقرار والأفضلية النسبية التي لاتزال بعض الانظمة العربية تتغنى وتتشبث بها وكأن شيئا لم يتغير من حولها في المنطقة , فهذه الثورات العربية قد شرعت بإعادة وصياغة مفهوم الاستقرار السياسي في المنطقة وسبل انجاحه وتحقيقه على ارض الواقع , ففي ظل هذه المتغيرات لم تعدة قوة الدول واستقرارها اليوم يقاس بحجم القدرات الامنية وعدد اجهزتها, ولم يعد تحقيق الاستقرار السياسي بالقيام بالمزيد من الإجراءات الاحترازية أو تكثير لائحة الممنوعات والاستثناءات والتضييق على الحريات وتكميم الافواه وتجاهل الحاجات والمطالبات الشعبية ! وهناك معادلة لبعض الساسة تقول إن عدم الاستقرار السياسى انما هو محصلة ونتيجة المطالب الشعبية السياسية والاجتماعية مقسومة على المؤسسات السياسية والاجتماعية و بعبارة أخرى أنه كلما زادت المطالب والمظالم ولم تكن هناك مؤسسات وقوانين وأنظمة قادرة على تلبيتها تحولت إلى أسباب عدم استقرار وهو نفس منطق الفيضان الذى ينتج عن زيادة كبيرة فى ماء الأمطار، مع عدم قدرة مجرى النهر على استيعاب الماء النازل من السماء, لذا فان الاستقرار السياسي في جوهره ومضمونه ليس مجرد وليد قوة امنية وعسكرية فكم من دول كانت تملك من القدرة على الصعيد الامني والاستخباراتي ولكنها لم تستطع المحافظة على استقرار انظمتها ولا البقاء, وأمام اعيننا عدد من الانظمة العربية القمعية التي سقطت في هذه الثورات العربية والتي كانت تحكم شعوبها بالقبضة الامنية وملاحقة الناشطين والسياسيين والزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات , ولعل النظام السوري الذي بدأت تتهاوى عروشه هو أحد أبشع تلك الانظمة التي مارست قمعا واجراما على شعبها وحرمانا لهم من الحرية , ومع كل ذلك لاتزال بعض الانظمة في المنطقة حتى هذه اللحظة ومع كل المتغيرات التي تشهدها المنطقة تتعامل مع بعض المطالبات الشعبية بالاساليب الامنية ! والحقيقة هي أن الاستقرار السياسي للدول إنما يقاس بمستوى الرضا الشعبي وبمستوى الثقة وبمستوى الحياة السياسية الداخلية، التي تفسح المجال لكل الطاقات والكفاءات للمشاركة في الحياة العامة وذلك من خلال اجراء حزمة من التدابير السياسية والاقتصادية والتنموية والثقافية التي تجعل من كافة الشرائح في المجتمع رافدا من روافد الاستقرار, وتنفيذ خطوات تعمق من خيار الثقة المتبادل بين السلطة والمجتمع ليشارك كافة افراده في عملية البناء , لذا فإن الدول التي تعيش حياة سياسية تشترك فيها قوى المجتمع وفق اسس ومبادئ واضحة وتتعمق لديها أسباب الرضا العميق بين الطرفين هي الاقدر على نيل وحصول الاستقرار ومواجهة كافة الازمات , وهكذا فإن دول اليوم بحاجة إلى صياغة وبلورة رؤية ووعي جديد، تجاه مسألة الاستقرار السياسي والعلاقة ما بين السلطة والمجتمع , ولايتم تحقق ذلك الا من خلال : تحقيق مبدأ المشاركة ، والشراكة تحمل في طياتها الحق في صنع القرار والاعتراض والتصويت والمساءلة وتغيير القيادات من خلال المجالس والبرلمانات المنتخبة شعبيا التي تشمل عامة فئات الشعب بدون تمييز أو إقصاء وغيرها من الحقوق التي تعطى لأي شريك, أما ان تكون طبيعة العلاقة القائمة الان بين الحكومات وشعوبها في المنطقة بأن يكون المواطن أقرب الى كونه مواطن من الدرجة الثانية، كالموظف الذي يستلم أجراً وبعض الامتيازات، ولكنه لا يقرر السياسات الهامة لهذه الشركة , فمثل هذه العلاقة غير المتكافئة أو الشراكه المنقوصة بين الحكومة وشعبها، تنعكس بدورها على كيفية استخدام الحكومات لسلطاتها وهو الأمر الذي يجعل استخدامها للسلطة ولموارد المجتمع في حالات كثيرة في تضارب مع ما تملية مصالح المجتمع بأجياله الحالية والمستقبلية, وان اقتناع الحكومات بسلطتها المطلقة، وأن الشعوب ليست شريكة معها في صناعة القرار، يجعلها تتصرف وكأنها هي وحدها لها السيادة على القرار ، وهذه الشراكة المنقوصة تتنافى مع دولة المؤسسات التي تقوم على المواطنة الواحدة على حد سواء “
وكذلك تحقيق الحريات بمفهومها الواسع , وليس فقط الحريات السياسية وكونها حق أساسي للفرد يجب اقرارها وصيانتها بالقانون واحترام تطبيقها وليس بالنظر اليها باعتبارها مكاسب قد تمنح لفئة دون اخرى أو لأحد دون الآخرفلو تأملنا في العديد من التجارب السياسية على هذا الصعيد، لرأينا أن الدول التي تتوفر فيها الحريات وتمنح شعبها حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية هي الاكثر استقرارا وتمكنا من مواجهة التحديات والمخاطر , ومن يبحث عن تحقيق الاستقرار بعيدا عن ذلك، فإنه لن يحصل إلا على أوهام القوة والاستقرار!
خاص لـ ( الهتلان بوست )