خاص لـ هات بوست:
نفخ الله من روحه في البشر ليصبح آدم الإنسان، فميزه جل جلاله عن غيره من المخلوقات بروحه، بما تحمله هذه الروح من صفات جمعتها تلك النفخة، وكلما أراد هذا الكائن تفعيل الإنسانية في داخله عليه التحلي بصفات من أسماء الله الحسنى.
وفي التنزيل الحكيم وردت مفردة “رحيم” مائة وخمسة عشر مرة، كإسم صفة لله جل وعلا، لا يسبقها من حيث عدد مرات التكرار سوى “عليم”، أما مفردة “رحمة” فقد وردت خمس وسبعين مرة، وجعل الله من رسالة محمد (ص) رحمة للعالمين، وذم أصحاب القلوب القاسية، وتوعدهم بالويل، بينما كتب على نفسه “الرحمة” فرجحها على العذاب، ووعد أن تتسع رحمته لكل شيء، ومن ثم تصبح الرحمة من أهم القيم المفترض تعزيزها في الأنفس، لمن يهمه الأمر.
ولعلنا، نحن “المسلمين” رحماء كأفراد، لا نختلف عن غيرنا من الأمم، أما كمجتمعات فتحل القسوة مكان الرحمة، فيغدو الطغيان الاجتماعي جاهزاً ليكون سيفاً مسلطاً لا يقل إيلاماً عن غيره من أنواع الطغيان، خاصة بكونه يتداخل مع ذاك العقائدي، حيث تمددت الأعراف لتصبح ضمن المحرمات، والقصص المتوارثة أحيطت بها هالة من القدسية، يصعب كسرها، ومن ثم الويل كل الويل لمن تسوّل له نفسه الجرأة على قوانين المجتمع، أو حتى الاعتراض على أي من مسلماته.
ورغم أن القصص القرآني كان حاضراً دائماً في مناهجنا الدراسية، وفي حكايانا المتداولة، وفي منشورات وسائل التواصل حديثاً، على ما تداخل به مما هو غير “قرآني”، إلا أننا لم نلق بالاً لكل الذين خرجوا عما ألفوا عليه آباءهم وحاولوا تحريك المياه الراكدة، وتعرضوا لمختلف أنواع الاضطهاد، ورغم أننا تعاطفنا معهم وما زلنا، لكننا لا نلبث أن نصبح ظالمين حين تمس عقائدنا، حتى لو كانت خاطئة، أو كان المس محقاً في معظم جوانبه، فما من أحد يجرؤ أن يعبر عن رأيه المخالف لما اعتدناه كي لا تثور عليه ثائرة المجتمع، ولا من يجرؤ على طرح سؤال للتفكير خارج الصندوق، فإن كان شخصاً معروفاً تكاتف حينها الناس، ليكيلوا له أشد التهم بقسوة لا مثيل لها، فيضطر للتراجع والتبرير والاعتذار عن الإساءة، وتعود القضايا موضع النقد لتطمر حتى إشعار آخر، وتتراكم الأسئلة الممنوعة لتشكل حائطاً جليدياً في وجه أي محاولة للتفكير أو الخروج عن الرتل لالتماس طريق التعلم والمعرفة، فلا رحيم ولا عليم.
وعلى مقلب آخر، ترى وسائل التواصل مزدحمة بنقاشات تدور حول جواز الترحم من عدمه على من غادر دنيانا، فيتبرع الجميع للحلول مكان رب العالمين – حاشا لله – سيما إن كان الشخص موضوع الترحم فناناً أو أديباً أو من ملة أخرى أو أقوام آخرين، إلى ما لا نهاية من التصنيفات، حيث يبخل البعض بمجرد تمني الرحمة، وما لنا سوى أن نحمد الله ونشكره كونه وضع الأمر بيده، وقد علم ما نحن عليه {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً} (الإسراء 100).
وكل هذا يبقى مفهوماً لمجتمعات مغلقة، تدعي الفضيلة وتحاول الحفاظ على “القيم”، لكن القيم تتداعى، أو يجري اللف والدوران حولها، حين يصبح الحديث عن المرأة، سواء لجهة ظلمها داخل مجتمعاتها، أم خارجها، ولنا في الموقف من الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا خير مثال، إذ بغض النظر عن السياسة، هناك لاجئات جميلات يصبح من الواجب حمايتهن، وتمني وصولهن إلى بلادنا لإغاثتهن وتقديم المساعدة، ولو أن الأمر بهذا النبل، لاستحق التقدير، لكننا نعرف أنه استغلال لظروفهن، بشتى الوسائل، دونما رحمة، كما سبق استغلال القاصرات السوريات بداعي التعاطف مع مآسيهن، والأنكى من ذلك هو إطلاق النكات والأغاني حول الموضوع، وسط المجتمع ذاته الذي يهتز لمشهد في فيلم أو نقد لفكرة لا أساس لها، بحجة أنه مجتمع “مسلم” محافظ، يتعرض لتهديد في قيمه.
لا مناص، وفق التنزيل الحكيم، لتفعيل الإنسان داخلنا، نحتاج لشيء من الرحمة في قلوبنا، فإذا كنا مسلمين فيجدر بنا أن نمتلك الكثير منها، لا كأفراد فقط، بل كمجتمعات أيضاً، حينها فقط يمكن أن تسمى مجتمعاتنا مسلمة.