صارت معرفتنا إلكترونية، وحسب تقسيمات «فيسبوك»: ما هي هوايتك؟ ما هي الأفلام التي تفضلها؟ ما هي الموسيقى التي تحبها؟
لا شيء عن «تلك الضحكة» أو «حركات العينين»، وغير ذلك من الصفات الشخصية. لا شيء عن الذات الحقيقية.
يبدأ كتاب «تغيير العقل: كيف تؤثر التكنولوجيا الرقمية على أدمغتنا»، بالتفريق بين «تكنولوجي» (تكنولوجيا) و«إلكترونيك» (إلكترون)، ذاكرا أن أصل الكلمة الأولى هو «تكني»، كلمة يونانية قديمة، معناها أدوات وماكينات. وأن أصل الكلمة الثانية هو «إلكترون»، أيضا كلمة يونانية قديمة معناها «امبار» (عنبر)، أول اكتشاف للكهرباء، عن طريق حك قطعتي عنبر ببعضهما.
يعنى هذا أن «إلكترون» هو جزء من «تكنولوجيا». إنه التكنولوجيا الكهربائية، ذات الصلة بالإلكترون (ذرة محملة بالكهرباء)، أو ما يمكن أن يسمى «ديجتال تكنولوجي» (تكنولوجيا رقمية).
ومن هنا جاء اسم الكتاب. وهو أول كتاب لسوزان غرينفيلد، الأستاذة الجامعية، في هذا الموضوع المعقد (جمعت بين دراسة الفلسفة وعلم الجهاز العصبي)، وربما الموضوع المخيف، لأنه ليس فقط عن التكنولوجيا والإلكترونات، كمجال معين، ولكن، أيضا، عن صلة هذه بأجسامنا، وبتأثيرها على تفكيرنا. ومن كتبها السابقة: «المخ البشري» و«ناس المستقبل» و«الذكاء والهوية» و«كيمياء الجهاز العصبي والتفكير» و«الهوية في القرن الحادي والعشرين» و«العواطف والتفكير في المخ».
وهكذا، تدخل بهذا الكتاب الجديد مجالا جديدا: تأثير التكنولوجيا على التفكير.
ملخص الكتاب: ما دام الدماغ البشري يتفاعل تلقائيا مع البيئة التي تحيط بصاحبه، فلا بد أن التجربة اليومية عن طريق التكنولوجيا الرقمية، التي تنتشر بشكل متزايد، تؤثر بشكل ما على الدماغ، وبالتالي، على طريقة التفكير.
وينقسم الكتاب إلى أجزاء منها:
أولا: تأثير الشبكات الاجتماعية على الهوية والعلاقات الاجتماعية.
ثانيا: تأثير ألعاب الفيديو على التركيز والإدمان والعنف.
ثالثا: تأثير محركات البحث على التعلم والذاكرة.
ويكشف الكتاب ربما حقيقة متوقعة: بينما تقدر الشبكات الاجتماعية على تعزيز صداقات حقيقية، يمكن أن تكون أيضا مكانا تزدهر فيه البلطجة والإساءة. هذا بالإضافة إلى أن كل ساعة نحن نقضيها في كتابة أو قراءة أشياء غير هامة هي على حساب وقت ضائع للقيام بأعمال منزلية، أو قراءة، أو ممارسة رياضة، أو الحديث وجها لوجه.
غير أن الحقيقة الجديدة، وربما المتوقعة أيضا، هي أن ألعاب الفيديو يمكن أن تقوي مهارات لها صلة بالانتباه، وسرعة الحركة، والتركيز على الهدف. لكن، قضاء وقت مستمر وطويل في اللعب يقلل من القدرة على الانتباه المستمر. بمعنى آخر: يمكن أن يفوز الشخص في كيفية تحاشي رصاصات قناص، أو السيطرة على الحركة الجوية من برج مراقبة الطائرات. لكنه، في الواقع، يقضي وقتا ثمينا في شيء ربما كان سيقضيه في عمل شيء مفيد، أو أكثر فائدة.
لم يثبت الكتاب، مثلما لم تثبت أبحاث كثيرة، خلال عقود، الصلة المباشرة بين العنف الذي يشاهد وممارسة العنف. وبدأت هذه الأبحاث حول عنف الأفلام السينمائية. ثم انتقلت إلى عنف المسلسلات التلفزيونية. والآن، عنف ألعاب الفيديو. لكن لم تربطه الأبحاث، بشكل مقنع، مع السلوك العنيف الذي يعد جريمة جنائيا. لكن، ثبت أنه يفعل الآتي: أولا، يخفض الميول الاجتماعية. ثانيا، يزيد احتمال العنف في المدارس. وثالثا، يقلل من الميول العكسية، مثل قراءة كتاب بدلا عنه.
ولاحظ الكتاب أنه، حتى إريك شميت، رئيس مجلس إدارة شركة «غوغل»، يعد قراءة كتاب «أفضل طريقة للتعلم».
لكن، ربما يرفض آخرون (خاصة الشباب) هذا الرأي. ويتساءلون: ماذا عن لعبة الدومينو؟ ولعبة الشطرنج؟ تزيد الذكاء، أو لا تزيده، أليست هي وقتا يمكن أن يقضى في قراءة كتاب؟ أليست كل لعبة على حساب قراءة كتاب؟ أليس كل شيء غير قراءة كتاب هو على حساب قراءة كتاب؟
وركز الكتاب على موضوع آخر هام: دور الإنترنت في تخفيض الذاكرة. وقال: «لماذا يتذكر تلميذ حاصل ضرب تسعة في تسعة إذا هو يعرف أن الحل في هاتفه أو كومبيوتره؟ حتى الأسماء، يقدر أي واحد على كتابه الاسم الأول لصديقه في ماكينة البحث لتتذكر اسمه بالكامل. هذا إذا ليس موجودا في عمود الأصدقاء».
ويرى الكاتب أن يوما سيأتي يتوقف فيه تبادل الحديث الطبيعي بين جماعة ما من أجل بحث في «غوغل» عن عاصمة إسبانيا، أو دولة اسمها «سوازيلاند»، أو الاسم الكامل لمطعم جديد في الحي.
يمكن أن يكون هذا شيئا يدعو للقلق. ويمكن أن يكون فرصة لمعرفة شيء لا يعرفه كل الذين يشتركون في النقاش. خاصة النوع الذي يقول: أين إسبانيا نفسها؟
وربما أهم جزء في الكتاب هو ذاك الذي يربط بين الإنترنت والهوية. فبسبب الشبكات الاجتماعية، صارت الهوية غير التي يعرفها الناس مباشرة. لم يعد الناس يعرفون شخصا ما، كالجار مثلا، معرفة وثيقة. صارت المعرفة إلكترونية، وحسب تقسيمات «فيسبوك»: ما هي هوايتك؟ ما هي الأفلام التي تفضلها؟ ما هي الموسيقى التي تحبها؟
لا شيء عن «تلك الضحكة» و«حركات العينين»، وغير ذلك من الصفات الشخصية. لا شيء عن «الذات الحقيقية».
نقطة أخرى: صارت الهوية «مبالغا فيها، صارت مثالية». لا شيء عن موقف حرج، أو نظرة احتقار، أو إساءة، أو فضيحة. وأخيرا يتساءل الكتاب: «لماذا لا يسألنا موقع فيسبوك عن سلبياتنا؟».
واشنطن: محمد علي صالح – الشرق الأوسط