كاتب سعودي
تغير الحال، وأصبح هاجس حكومات العالم الأول هو الأمن دون تحديد لما يمكن أن تقف عنده الإجراءات لتحقيق المفهوم الأمني في الذهنية الحكومية، والذي لا تعرفه بدقة ذهنية الجمهور. معنى الأمن لدى المؤسسة مختلف عن معناه البسيط أو المباشر لدى الفرد الذي بقدر ما يريد تحقيقه، إلا أنه لا يود أن يكون ذلك على حساب حريته وخصوصياته؛ لذلك تفجرت الضجة في الشارع الأمريكي ووسائل الإعلام، وتحركت منظمات حقوق الإنسان ومراكز الدفاع عن الحريات الدستورية، بعد أن اكتشف الناس أن كل خصوصياتهم تحت مجهر المراقبة الدقيقة.
بدأت الأزمة بعد كشف صحيفة القارديان البريطانية، ثم الواشنطن بوست، عن توقيع قرار سري يتيح لوكالة الأمن القومي بجمع تسجيلات المكالمات الهاتفية لعشرات الملايين من عملاء شركة «فيريزون» للاتصالات، وبعد أن بدأت آلة التقصي الإعلامي تحرياتها العميقة اتضح أن الأمر ليس جديدا، ولا يتوقف على رصد المكالمات الهاتفية فحسب، وإنما كل ما يفكر الإنسان بالبحث عنه أو كتابته أو تلقيه أو قراءته في محركات البحث الإنترنتية ومواقع التواصل الاجتماعي مراقب أيضا، لتكبر كرة الثلج، وتبلغ المشكلة حد الأزمة بين الشارع وصناع القرار، ما اضطر الرئيس أوباما إلى إلقاء كلمة حاول فيها تطمين الناس على خصوصياتهم، لكنه لم يفلح كثيرا في ذلك عندما أشار إلى أنه لا يوجد أمن كامل مقابل خصوصية كاملة، أي أنه يعترف ضمنيا بحقيقة ما تم كشفه في وسائل الإعلام، وذلك ما يستدعي التساؤل هل هناك شيء يمكن تسميته أمنا كاملا، وهل إذا طرح أحد هذا المفهوم نظريا يمكن تحقيقه عمليا؟
المنطق يقول إنه لا يمكن أن يوجد أمن كامل في هذا العالم، ولا يمكن أن يتحقق بأي حال من الأحوال، ومجرد التفكير في تحقيقه ليس إلا حلما أو انعكاسا لحالة من الرهاب بلغت أسوأ حالاتها. طالما هناك تجمعات بشرية بمختلف الأطياف والمشارب والتفكير والنزعات والسلوكيات والأخلاقيات، فلا يمكن أن تجعل من مكان تجمعهم مدينة أفلاطونية فاضلة، ناهيك عن أن تكون مدينة آمنة بالمطلق. صحيح أنه لا بد من حماية هذه المدينة من التخريب والإجرام والحفاظ على حياة وأمن ساكنيها من تصرفات المنحرفين والعدوانيين، ووضع ضوابط وأنظمة وسن قوانين وتشريعات تنظم الحياة والعلاقات وتحاسب المخطئ والمسيء، لكن الحياة تكون صعبة لا تطاق حين يشعر الإنسان أنه مقابل ذلك لا بد أن تكون أدق خصوصياته تحت سمع وبصر الرقيب.
إنها المعادلة الصعبة بين الحرية والأمن التي أفرزها الواقع الجديد، أو حكومات وأنظمة الواقع الجديد.
المصدر: صحيفة عكاظ