في معركتها الشرسة ضد أكبر إمبراطورية إعلامية في البلاد، قامت الرئيسة الأرجنتينية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر بالإغارة على حصون الإمبراطورية عن طريق إرسال 200 من موظفي وكالة الضرائب إليها، بينما اتهم مناصروها أكبر حملة الأسهم في هذا التكتل الإعلامي الكبير بتبني طفلين يعتقد أنهما مخطوفان من امرأة لقيت مصرعها أثناء «الحرب القذرة» التي دارت في الأرجنتين، في الوقت الذي قام فيه نائب الرئيس بوصف هيكتور ماغنيتو، الرئيس التنفيذي للمجموعة، بـ«عضو المافيا».
ورغم ذلك، فإن الصراع الدائر بين كيرشنر ومجموعة «غروبو كلارين»، والذي يعتبر أحد أكثر الصراعات التي دارت على السلطة والنفوذ العام في الأرجنتين إثارة للجدل منذ سنوات طويلة، قد زادت سخونته للتو.
هناك مواجهة حاسمة تلوح في الأفق مع اقتراب موعد دخول قانون الإعلام الجديد، الذي دافعت عنه كيرشنر، حيز التنفيذ في شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي، حيث سيجبر القانون مجموعة «غروبو كلارين» على التخلي عن غالبية عملياتها في قطاع التلفزيون الكابلي. تدعم هذه الأصول المربحة مجموعة كبيرة من المطبوعات واسعة الانتشار التي تصدرها المجموعة، بما في ذلك صحيفة «كلارين» اليومية، وهي واحدة من بين أكثر الصحف الناطقة بالإسبانية انتشارا في العالم.
تعكس طموحات كيرشنر في تفكيك إمبراطورية «غروبو كلارين» حالة من الامتعاض الرسمي بخصوص سطوة المجموعة، التي تطورت على مدار عقود من صحيفة على شفير الإفلاس إلى عملاق إعلامي كبير اضطر الرؤساء في الأرجنتين لإبداء احتقارهم له في بعض الأحيان رغم أنهم كانوا يدركون جيدا مدى قوته في تشكيل الرأي العام في البلاد.
وبالنسبة لـ«كلارين»، لا تنطوي المعركة على مصالح اقتصادية فحسب، وإنما أيضا على جدوى استمرار المجموعات الإعلامية المستقلة في بلد يقوم فيه المسؤولون الحكوميون بتوجيه حملة متصاعدة من الدعاية العامة ضد المؤسسات الصحافية التي تلقي الضوء على تراجع معدلات التأييد لكيرشنر في الآونة الأخيرة جراء تباطؤ النمو الاقتصادي في البلاد.
يقول ماغنيتو: «الأمر أكبر من «كلارين» بكثير، إنه صراع على الديمقراطية».
ولكن منتقدي «كلارين» وهم كثيرون وينتمون إلى مختلف ألوان الطيف السياسي، يتبنون وجهة نظر مغايرة تماما، حيث يؤكدون أن «كلارين»، التي تأسست في أربعينيات القرن العشرين على أيدي مجموعة من المتعاطفين مع قوات المحور، تواطأت مع الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البلاد في سبعينات القرن الماضي، وهو ما أعطاها بعض المزايا على منافسيها، قبل أن تتوسع بصورة كبيرة للغاية من خلال الضغط على الزعماء المنتخبين بصورة ديمقراطية لتخفيف تدابير مكافحة الاحتكار.
يقول روبرتو كاباليرو، وهو رئيس تحرير صحيفة «تيمبو أرجنتينو»، وهي جزء من مجموعة «فينتيتريز» الإعلامية التي تعتمد بشكل رئيسي على الإعلانات الحكومية: «كلارين تفكر بنفس طريقة تفكير الحكومة». صادفت تصريحات كاباليرو الخاصة بحجم ونفوذ «كلارين» الهائلين هوى في نفس مارتن ساباتيلا، مدير الوكالة الاتحادية التي تم إنشاؤها بهدف إنفاذ قانون الإعلام، والذي أكد أن التدابير الجديدة ترمي إلى ضمان «تعدد الأصوات».
وفي مناطق أخرى من أميركا اللاتينية، دخل الزعماء في صراعات حامية الوطيس مع وسائل الإعلام الإخبارية، حيث خرجت المظاهرات المناهضة للرئيس الفنزويلي هوغو شافيز بعد قراره منع بث برامج قناة «آر سي تي في» المعارضة له، بينما يقوم الرئيس الأكوادوري رافائيل كوريا بصورة منتظمة بالاستهانة بالصحافيين، فضلا عن مواجهة بعضهم لدعاوى تشهير منهكة.
ولكن معركة كيرشنر مع «كلارين» تثير الكثير من علامات الاستفهام، نظرا للعلاقة الوثيقة التي كانت تجمعهما في الماضي. فلأعوام مديدة، ظلت «كلارين» تلقي بدعمها الكامل خلف نستور كيرشنر، وهو زوج كيرشنر السابق الذي شغل منصب رئيس الأرجنتين في الفترة بين 2003 و2007. والذي كان يستضيف ماغنيتو على الغداء في مقر الرئاسة بصورة منتظمة، فضلا عن القصص الحصرية التي كان يخص بها صحافيو «كلارين» في كثير من الأحيان. دخل كيرشنر في صراع مع بعض من كبار منافسي «كلارين»، ولا سيما صحيفة «لا ناسيون» اليومية. وفي واحد من أواخر أعماله كرئيس للأرجنتين، أعطى كيرشنر تعليماته للمسؤولين بالموافقة على استحواذ «كلارين» على شركة «كابل فيجن»، وهي من كبريات شركات التلفزيون الكابلي في البلاد. زادت هذه الصفقة من الجواهر الموجودة في تاج «كلارين»، حيث مكنتها من الاستحواذ على مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام واسعة الانتشار، بما في ذلك بعض المجلات ومزودي خدمات الإنترنت والقنوات التلفزيونية التي تتمتع برامجها الإخبارية والترفيهية بأعلى نسب المشاهدة في الأرجنتين.
ورغم ذلك، بدأت علاقة «كلارين» مع عائلة كيرشنر بالتدهور في عام 2007، عندما قامت الجريدة بنشر تقارير حول وصول رجل أعمال إلى الأرجنتين قادما من فنزويلا وهو يحمل معه حقيبة سفر تحتوي على 800.000 دولار نقدا، مما أدى إلى إثارة بعض الأقاويل التي زعمت بأن هذه الأموال مجرد مساهمة سرية في حملة السيدة كيرشنر الرئاسية. تدهورت علاقة «كلارين» بالحكومة بصورة أكبر في عام 2008 عندما قامت كيرشنر برفع ضرائب الصادرات على المنتجين الزراعيين ووقفت «كلارين» مع المزارعين المضربين ضد هذه التدابير، مما نتج عنه اتهام كيرشنر لـ«غروبو كلارين» بإثارة الاضطرابات الأهلية. وعندما خاضت كيرشنر الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2011 لإعادة انتخابها – كانت من بين الشعارات التي رفعتها تقول: «أكاذيب «كلارين»»- كان واضحا أن «كلارين» كانت خصما لها تماما مثل منافسيها من المرشحين الآخرين. لا تعتبر الصراعات مع الرؤساء أمرا جديدا على «كلارين»، حيث دخلت الصحيفة في صراعات مريرة مع الكثير من الرؤساء السابقين للأرجنتين، أمثال راؤول ألفونسين وكارلوس منعم، فرغم كون الصحيفة تقبع تحت الحصار في الوقت الحالي، فإنها لا تزال تتمتع بتأثير كبير في الدوائر السياسية.
يقول غراسييلا موتشيكوفيسكي، وهو مؤلف كتاب «الخطيئة الأصلية» الذي يتناول صعود «كلارين» داخل الثقافة السياسية في الأرجنتين: «من وراء الكواليس، هناك سياسيون يشعرون بالرضا من محاولات إضعاف (كلارين)». ورغم ذلك، فإن الصراعات التي خاضتها «كلارين» مع الزعماء السابقين تعتبر ضئيلة للغاية مقارنة بمعركتها مع كيرشنر، التي شجعت حكومتها على إجراء تحقيق بشأن قيام إرنستينا هيريرا دي نوبل، أرملة مؤسس «كلارين» روبرتو نوبل، بتبني اثنين من الأطفال، مارسيلا وفيليبي هيريرا نوبل، اللذين أصبحا بالغين وهما الآن الوريثان القانونيان لحصة إرنستينا في أسهم «كلارين».
أصبح الشابان الآن متورطين في الجهود التي تبذلها جماعات حقوق الإنسان لتحديد أصول نحو 500 طفل من المعتقد أنه تم اختطافهم من أمهاتهم اللاتي لقين حتفهن على يد الديكتاتورية العسكرية في الفترة بين 1976 و1983. ولكن اختبارات الحمض النووي قد أكدت في نهاية المطاف على أنهما لم يكونا من بين الأطفال المختطفين.
تعرضت «كلارين» لحملة تدقيق بعدما طفت التعاملات التي قامت بها خلال حقبة الديكتاتورية على السطح مرة أخرى في مناقشات الكونغرس حول القانون الإعلامي، بما في ذلك الاتفاقية التي حصلت بموجبها «كلارين» واثنان من ناشري الصحف الأخرى على أسهم في المصنع الوحيد في الأرجنتين لصناعة ورق الصحف. تعرضت ليديا باباليو، وهي أرملة المصرفي الذي كان أحد المساهمين في هذا المصنع، للتعذيب والاغتصاب عقب إلقاء القبض عليها خلال الحقبة الديكتاتورية.
وبالإضافة إلى ممارسة ضغوط على «كلارين» بشأن العمليات التوسعية التي قامت بها خلال فترة الحكم العسكري، صبت حكومة كيرشنر جام غضبها على ماغنيتو، وهو المحاسب الذي انضم إلى «كلارين» عندما كان لا يزال في العشرينات من عمره ونجا مع عمليات تطهير متعددة جرت في صفوف العاملين بالصحيفة حتى أصبح الآن الرئيس التنفيذي للصحافية وثاني أكبر حملة الأسهم في المجموعة، بعد السيدة هيريرا دي نوبل.
وبعد صراع مع سرطان الحنجرة، يواجه ماغنيتو صعوبة كبيرة في الحديث جراء الخضوع للكثير من العمليات الجراحية من قبل أطباء في الولايات المتحدة الأميركية. وفي المقابلة التي أجريت معه إلى جانب ريكاردو كيرشباوم، رئيس تحرير صحيفة «كلارين» الذي ساعد في تفسيره ردوده على الأسئلة، زعم ماغنيتو، 68 عاما، أن «كلارين» تتعرض للظلم في محاولة للانتقام منها بسبب مواقفها الصحافية. أضاف ماغنيتو: «إن هدف الحكومة ليس هو العدالة»، زاعما أن الجهود المبذولة لتقسيم «كلارين» ما هي إلا جزء من خطة لتغيير الدستور الأرجنتيني كي تستطيع الرئيسة كيرشنر تولي فترة حكم ثالثة في عام 2015. يقول ماغنيتو: «وكي تستطيع القيام بذلك، تحتاج الرئيسة إلى فرض قيود على حرية الصحافة». قامت المؤسسات الصحافية التي لا تعتبر منتقدا قويا للحكومة بتوسعة نشاطها خلال فترة حكم عائلة كيرشنر، فمن خلال الإنفاق العام على الدعاية، تقوم الحكومة بدعم الشركات الإعلامية المطبوعة والمرئية الموالية لها، بينما تحجب هذه الدعاية عن المنظمات التي ينظر إليها على أنها معادية. وفي إحدى الحالات، أصدرت المحكمة العليا حكما لصالح شركة «إيديتوريال بيرفيل»، وهي إحدى دور نشر المجلات التي قامت برفع دعوى قضائية ضد الحكومة بخصوص سياستها الإعلانية.
تبلغ الميزانية الحكومية المخصصة للإنفاق على الدعاية في عام 2013 إلى نحو 300 مليون دولار – بما في ذلك الإعلانات التلفزيونية الخاصة بشركة «واي بي إف»، وهي شركة النفط والغاز الطبيعي التي استحوذت عليها الحكومة في العام الجاري، والإعلانات السياسية التي تنتقد معارضي الحكومة خلال مباريات كرة القدم المذاعة في تلفزيون الدولة، فضلا عن الإعلان عن المشروعات التي ترعاها الحكومة – مقارنة بنحو 10.5 مليون دولار في عام 2003.
يعترف كاباليرو، وهو رئيس تحرير صحيفة «تيمبو أرجنتينو» الموالية للحكومة، باعتماد صحيفته على تلك الإعلانات، واصفا إياها بأنها: «سياسة لتشجيع النقاش وتعزيز الأصوات الأخرى».
تم إقرار قانون الإعلام الجديد، الذي يجبر «كلارين» على بيع بعض عملياتها في شركات الكيبل، في عام 2009. حيث تقول السلطات إن القانون الجديد يهدف لجعل ملكية العمليات التلفزيونية «أكثر ديمقراطية». قامت «كلارين» بالفعل بالطعن على القانون أمام المحاكم، ولكن المحكمة العليا أصدرت حكما في شهر مايو (أيار) الماضي يقضي بضرورة امتثال «كلارين» للقانون الجديد بحلول يوم 7 ديسمبر الجاري.
ومع اقتراب انتهاء المهلة الممنوحة لها، ما زالت «كلارين» تعقد بعض الآمال على إمكانية اعتبار هذا القانون غير دستوري. وفي نفس الوقت، زعم ماغنيتو أن حكومة الرئيسة كيرشنر تقوم بإرهاب القضاء، مما يجعل من المستحيل تقريبا إصدار حكم يتميز بالموضوعية، بعدما قدم الكثير من القضاة استقالتهم خلال الأسابيع القليلة الماضية.
خدمة «نيويورك تايمز»
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط