لرمضان بحي الحسين والأزهر الشريف طعم خاص، ويحرص معظم المصريين على ألا تفوتهم الفرصة لقضاء سهرة في رحاب هذه الأماكن التاريخية، أو تناول الإفطار أو السحور في ظلال أجوائها الساحرة.
وبالتزامن مع الشهر الكرم، وعن سيرة الجامع الأزهر وتاريخ نشأته والتحولات التي مر بها، أصدر مركز دراسات الحضارة الإسلامية بمكتبة الإسكندرية موسوعة ضافية، في طبعة فاخرة ملونة بعنوان «كتالوج الجامع الأزهر الشريف».
وتكشف الموسوعة عن جماليات عمارة الأزهر الشريف، والحياة بداخله منذ نشأته حتى العصر الحديث، كما تكشف الغبار عن كنوزه من تحف ومصاحف ومخطوطات، استغرق العمل عليها أكثر من ثلاث سنوات، استطاع خلالها فريق العمل الذي تكون من باحثين ومهندسين ومصورين وخطاطين من مكتبة الإسكندرية ومشيخة الأزهر ومتحف الفن الإسلامي بالقاهرة ومن دولة العراق، إنجاز هذه الموسوعة العلمية الشاملة عن الجامع الأزهر الشريف عمارته وتاريخه، بأسلوب علمي توثيقي قائم عن التسجيل الأثري والتدقيق التاريخي وتقديم الدليل المصور الذي يؤكد ما جاء في الكتالوج.
ويقف الجامع الأزهر في قلب مدينة القاهرة المحروسة بمآذنه الخمس ومدارسه الثلاث وأروقته التي احتضنت طلبة العلم من كل بقاع الأرض، جاءوا إليه ليتعلموا ثم يعودوا إلى ديارهم لينشروا نور الله والإسلام؛ وخلال أكثر من ألف سنة مرت والأزهر الشريف باق، كأحد أهم المزارات الدينية في مصر منذ أن شيده القائد الفاطمي أبو الحسن جوهر بن عبد الله الرومي الصقلي الكاتب؛ ليكون مسجدا جامعا لمدينة القاهرة التي وضع حجر الأساس لها لتكون عاصمة للدولة الفاطمية في مصر (358 – 567ه/ 969 – 1171م)، واختار له موقعا في الجنوب الشرقي من المدينة على مقربة من القصر الكبير الذي كان موجودا حينئذ بين حي الديلم وحي الترك في الجنوب.
حظي الجامع الأزهر الشريف باهتمام الأئمة الفاطميين كالإمام الحاكم بأمر الله (996 – 1021م) الذي بقي من عمارته للجامع باب خشبي ضخم، وكان أول من أوقف الأوقاف على الجامع الأزهر الشريف بموجب وقفية تدل على مقدار المخصصات المالية التي خصصتها الدولة للإنفاق على الجامع من أجل القيام برسالته.
وأغلق الأزهر في عهد الناصر صلاح الدين (1169 – 1193م)، وذلك للقضاء على الدولة الفاطمية الإسماعيلية المذهب، ولمحاربة المذهب الشيعي بين الشعب المصري، وظل مغلقا لنحو مائة عام حتى أمر الملك الظاهر بيبرس البندقداري (1260 – 1277م) بإعادة صلاة الجمعة إلى الجامع الأزهر يوم الجمعة 18 من ربيع الأول سنة 665 ه/ 1267 م، ومنذ ذلك التاريخ والأزهر في قلب المصريين حكاما وشعبا، وشاركهم في ذلك المسلمون في كل بقاع الأرض ممن يبحث عن الوسطية ورقي العلوم الدينية والتعايش.
وفي عصر دولة المماليك الجراكسة طور الأزهر واستحدث منصب «ناظر الأزهر» لتولي شؤون رعاية الجامع. ويعد السلطان الظاهر برقوق أول من استحدث مرسوما لتنظيم أموال مجاوري الأزهر الشريف ممن مات دون وارث شرعي؛ واهتم السلطان الأشرف قايتباي (1468 – 1496م) بالجامع الأزهر، فأنشأ له مدخلا جديدا يعد من أروع المداخل المعمارية على مستوى العالم، وأمر بإنشاء رواق للطلبة الأتراك، وتجديد رواق الطلبة المغاربة، وأمر الخواجة مصطفي بن محمود بن رستم الرومي بتجديد عمارة الجامع كله في سنة 1494م، وأقامت مئذنة لا تزال باقية، ومع قرب نهاية دولة المماليك أمر السلطان الأشرف قنصوه الغوري بإقامة مئذنة ذات راسين تميز واجهة الجامع الأزهر الشريف.
وكان الأزهر الشريف حصن اللغة العربية ومدرسة الوسطية وشعلة الوطنية خلال فترة الاحتلال العثماني لمصر، لذا عندما طرق الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت أبواب مصر محتلين كان للأزهر دوره التاريخي والنضالي؛ ففي أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1798 اندلعت ثورة القاهرة الأولى ضد قوات الاحتلال الفرنسي، وقد استطاع الثوار في هذا اليوم قتل الجنرال ديبوي، وقد اتخذ الثوار من الجامع الأزهر مقرا لهم، مما دفع حاكم القاهرة الجنرال بون الذي خلف ديبوي إلى ضرب المدينة من على تلال الدراسة، فأطلقت أولى القنابل على المدينة وبالتحديد على الجامع الأزهر ظهر يوم 22 من أكتوبر سنة 1798، فانفجرت في الجامع، ثم انهالت القنابل على الجامع الأزهر والمنطقة المحيطة به حتى كاد يتداعى، وتغلبت قوة النار على قوة الثوار، فاقتحم الفرنسيون الجامع الأزهر.
وأعد مادة الموسوعة العلمية الباحثان محمد السيد حمدي والدكتورة شيماء السايح، وقدم له الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، والدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية. كما قام بالإشراف التنفيذي عليها الدكتور خالد عزب، رئيس قطاع الخدمات والمشروعات المركزية بالمكتبة. وتقع الموسوعة بجزأيها الفخيمين في 786 صفحة. ويفرد الكتالوج الصفحات لتاريخ الجامع الأزهر في كفاح شعب مصر والذود عن ثوابته عبر التاريخ من خلال مجموعة من الوثائق والصور الجديدة. ويأخذنا إلى مشاهد من هذا الدور الوطني، إذ يروي الباحثون كيف كانت الثورة تبدأ من الأزهر، حيث ذكروا أن المظاهرة كانت تبدأ بصعود الثائرين على مآذن الجامع الأزهر الشريف يدقون الطبول، وتعلو أصواتهم هاتفة بسقوط الظلم، وداعية التجار إلى غلق حوانيتهم، وكانت الدراسة تتعطل مشاركة من العلماء والطلبة للجماهير في مشاعرهم، ثم يخرج الموكب الصاخب يتقدمه شيخ الجامع وعلماؤه ومجاوروه ويتجهون إلى الحاكم الظالم ويطلبون منه رفع المظالم عن الشعب، ولا يسع هذا الحاكم إلا أن ينزل على رغبتهم.
ومثلما كان الأزهر محط أنظار الكثير من الرحالة والمؤرخين الأوروبيين، ومنهم «باسكال كوست» الذي قدم أول رسم لتخطيط الجامع الأزهر؛ كان الجامع محط اهتمام أسرة محمد علي باشا فقد قام الخديو إسماعيل بتجديد باب الصعايدة الكبير مع ما فوقه من المكتب بمباشرة ناظر الأوقاف أدهم باشا ناظر الأوقاف سنة 1865. وأمر الخديو عباس حلمي الثاني بتشييد الرواق العباسي، والذي يقع عند طرف الواجهة الشمالية الغربية، وقد قام الخديو عباس حلمي الثاني بافتتاح الرواق في حفل مهيب في 18 مارس (آذار) سنة 1898. وفي سنة 1931 في عهد الملك أحمد فؤاد الأول أزيلت المباني التي كانت تحجب الجامع الأزهر من ناحيته الغربية البحرية إلى حده البحري، فصار بينه وبين باب المشهد الحسيني رحبة متسعة، كما أصلح الجناح الغربي البحري لرواق الحنفية وفتح له باب آخر وسد بابه الذي كان محتجبا بكتلة المباني.
وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر جرى إنشاء الواجهة المطلة على شارع الأزهر سنة 1970، وقام رئيس باكستان الأسبق ضياء الحق بإهداء الجامع سجادا حديثا من نوع المحاريب. وفي نهاية القرن العشرين وبالتحديد في سنة 1998 قامت شركة «المقاولون العرب» بتدعيم الأروقة التي أضافها عبد الرحمن كتخدا، وعمل أساسات للجدران بعمق 20 مترا، لحماية الجامع من تأثيرات النفق الذي جرى شقه تحت شارع الأزهر. ومع تلك الإضافات والعمارات بلغت مساحة الجامع الأزهر الحالية نحو (11500 متر مربع) أي (2.75) فدان تقريبا.
المصدر: القاهرة: جمال القصاص – الشرق الأوسط