سفير خادم الحرمين الشريفين في دولة الإمارات العربية المتحدة
في عام 1944 ولد الدكتور حمزة المزيني، أستاذ اللسانيات السعودي، في المدينة المنورة التي شهدت حرّاتها، ركضه الأول.
الشاب المدني، وهو يرى أهمية الترجمة في المدينة، للتعامل مع الحجاج الذين لا يتحدثون العربية، وكيف كان الحديث بلغتهم، ميزة لمتقنها… هل كان يختار خلال طفولته، أن يتخصص بالترجمة، واللسانيات؟! من يدري!
المدينة المنورة التي تضم بمحبة، المنتقلين للسكن إليها، وهو ما يسمى بالجوار، أي جوار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومرقده، كانت جامعاً لاختلافات معرفية واجتماعية، بحكم تباين واختلاف أماكن القادمين للمدينة من العالم كله، حاملين معهم كل ثقافاتهم.
وما كان موقع الولادة، إلا نتيجة وسبباً في رغبة دائمة عند الدكتور المزيني، بفتح كوى الاختلاف، وصناعة الأسئلة، والرغبة باكتشاف المزيد من الآراء. فالمدينة المتعددة الهويات، مدينة عالمية لا تقف عند نمط واحد، حتى أن الأستاذ عثمان العمير، الصحافي السعودي الشهير، الذي قضى جزءاً من نشأته بالمدينة، يعتبرها أحد أكثر مدن العالم تنوعاً، إذ تطعمك يومياً بدهشة الاختلاف وروعته، وتمنحك التكيف على فهم البشرية، واستيعاب التنوع.
تخصص المزيني باللسانيات، دارساً ومدرساً، فحاز الماجستير والدكتوراه من جامعة تكساس، ولم تغيبه الأكاديميا عن مشاركة القضايا العامة، على المستويات السياسية، والفكرية، والعلمية، بل والفقهية، حيث كتب وألّف حول «الأهلة»، إثر نقاش صحفي طويل، مع الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، حول حساب الأهلة والاعتداد به قبالة الرؤية.
استطاع طوال تجربة كتابته في الصحف، أن يصنع رأياً مختلفاً، حيث كان أحد المقاتلين الشجعان، بعد أحداث 11 سبتمبر، في مواجهة فكر التطرف، وراح يساجل ويحاجج، بقوة وعلمية، ويبقى مقاله: «ثقافة الموت»، أيقونة في هذا المجال، ويمكن أن يتعلمها الناس في منصات التعليم والوعظ، ما جعله ضمن قوائم الاستهداف الشخصي والمعنوي، لكن هذا لم يفت له عضداً في مهمته الوطنية.
المزيني المؤمن بالحوار، قيمة سامية للوصول إلى حقائق نسبية، قدم حوارات ومداخلات، كما أشرنا مع الشيخ اللحيدان، ومع الشيخ عبدالله بن منيع، والدكتور حسن الهويمل، والدكتور عبدالله الغذامي، وغيرهم.
وركز على ترجمة اللسانيات، فاختار لستيفن بنكر، كتاب «الغريزة اللغوية: كيف يبدع العقلُ اللغة»، واعتبر سبب اختياره الكتاب للترجمة:
*أنه موضع اهتمام المتخصصين وترجم لأكثر من أربعين لغة.
*ولأنه يتناول الصلة بين اللغة وعلم الأحياء، مستعرضاً كثيراً من الأدلة التي تبيِّن أن اللغة جزءٌ مُميَّز من التكوين العضوي لأدمغتنا.
*ولأن اللغة أداة مُعقَّدة، متخصصة، تتطور لدى الطفل بشكل فَوْريٍّ مُبَاغِتٍ، من غير أي جهد واضح أو تعليم محدد، وتُستعمَل من غير وعي بمنْطقِها الخَفي.
كما ترجم لـ«ديفيد جستس»، كتابه: «دلالة الشكل في العربية في مرآة اللغات الأوروبية المعاصرة»، وعنوانه بالعربية: «محاسن العربية في العيون الغربية».
وما كان اختيار المزيني، للكتاب إلا لتضمنه «ردّاً»، على كثير من المقولات المتحيزة ضد اللغة العربية، إذ عرض المؤلف – بحسب المزيني- لكثير من المقولات التي سادت في السياق الثقافي الغربي (والعربي) عن اللغة العربية، وأخذ يفندها الواحدة بعد الأخرى، ولم يكن ذلك «دفاعاً» عنها بقدر ما كان تجلية لأمر مهم، هو أن اللغة العربية، لغة بشرية طبيعية، تتضمن من الظواهر ما تتضمنه اللغات الأخرى.
ارتبط اسم المزيني بالمفكر الأميركي الشهير نعوم تشوميسكي، إذ ترجم العديد من كتبه في اللسانيات، وظلّ على اتصالٍ ومراسلات معه حتى اليوم، إذ سرعان ما يبتدره باقتراح ترجمة جديد أعماله.
عن تشوميسكي، يقول المزيني: (له مكانة في تاريخ اللسانيات لا يدانيه فيها إلا القلة من العلماء. فلقد بدأ توجُّهاً جديداً في دراسة هذا الموضوع، منذ أن نشر كتابه «البنى التركيبية» سنة 1957م. وأحدث بذلك ما يشبه القطيعة مع المناهج التي كانت تتبعها اللسانيات وعن الأهداف التي كانت ترسمها لنفسها)، يضيف «لم يَعد الهدف وصفَ المادة اللغوية التي يجمعها الدارس، بل صار تفسير هذه المادة تفسيراً يَقصد إلى اكتشاف ما يكمن وراء الظاهر الذي تمثله هذه المادة اللغوية».
المزيني يمثّل ظاهرة أكاديمية وعلمية فريدة، جمع بين التأليف المنهجي، والترجمة المثابرة، والمقالات الدورية، والإثراء العلمي حتى بحضوره في موقع مثل «تويتر». وما رأى في هذه المواقع رزيّةً على الأكاديمي، بل أغنى وأثرى، وهذه هي ميزة الكبار الذين يبثون التأثير الإيجابي حيث كانوا. إنه درب المعرفة والتعليم.
المصدر: الاتحاد