محمد خميس روائي صدر له من أمريكا رواية لفئة المراهقين بعنوان "مملكة سكابا" ، وله باللغة العربية مسرحية أدبية بعنوان "موعد مع الشمس"
” بما ان اشباع الجوع هي غريزة اساسية لأجل البقاء، اذاً والدك اشبع جوعه ليعيش، ويتمكن من إثبات ذاته، وسيلته كانت الطعام وغايته هو تحقيق أهدافه، ولم يكن العكس، الوسيلة هنا مشروعة والغاية نبيلة، فعليك ان تفخري به”
كانت تلك الكلمات موجهة للطفلة الصغيرة، المحتارة، بين ما تراه وتستوعبه بعقلها الصغير، وبين ما قيل لها كحقيقة قد تفهمها في يومٍ ما،عندما تكبر.
وقفت اليتيمة، تقرأ امام زميلاتها في اسبوعها الأول في المدرسة، ” أحداث الصيف” وقالت فيما قالت:أبي كان رجلاً محباً ومعطاءً، وكان رجلاً حكيماً، يكثر من نصحي، لأتعرف من خلاله على الحياة فأتجنب الوقوع في الخطأ.
كان دائماً ما يردد على مسامعي ” أن الإنسان يأكل ليعيش، ولا يعيش ليأكل” ثم يتبع حكمته ” على الإنسان ان يعيش من اجل تحقيق ذاته ” وكنت أسئله عن كيفية تحقيق الذات، ليشرح لي ان يصبح الإنسان عضواً فعالاً في المجتمع ويسعى الى المساهمة الإيجابية في بناءه، وكنت انظر اليه فارغة فاهي لعدم استعابي، فيربت على كتفي ويمضى شارحاً، العمل طريقة مثلى في المساهمة في تطور المجتمع، والإخلاص فيه مطلب أساسي لتحقيق أهدافه، كلنا شركاء في بناء مجتمعاتنا، مهما صغر نوع العمل الذي نؤديه، اسهاماتنا تقاس بحسب قدراتنا، لا بحجم العمل ذاته، لذلك يمنحنا العمل لذة تحقيق الذات.
كان أبي، يعلمني ان احترم عامل النظافة بقدر ما احترم مديره، ويأكد لي بأني سأستوعب وافهم ما يقوله عندما أكبر، كنت أقاطعه بعفوية واسأله ” لكنك يا أبي تعمل من أجل الطعام وليس لتحقيق ذاتك” ويستغرب من اين لي ذلك، فأعيد على مسامعه ما يتناهى اليْ، حينما يعلو صوته في نقاشاته مع والدتي، ” أنا أعمل بجد وإجتهاد، وأحرم نفسي من امور كثيرة، لأضع لكم الطعام على المائدة” إذاً انت تعمل للطعام وليس لتحقيق ذاتك، وكان يبتسم ويثني على ذكائي.
وحينما مرض أبي، صرفت أمي كل نقود طعامنا على علاجه ليستطيع ان يأكل، وكان أكبر همها ان تجعله يعيش ليأكل، إذاً ما جمعه والدي طوال فترة عمله كان لأجل الطعام، وكنت قد سمعته ذات مرة يقول ” انا أعمل وأكدح، حتى لا يجوع أبنائي من بعدي”، كل ما نقوم به في حياتنا إنما هو لطعامنا لنعيش ونأكله، وليس العكس.
مات أبي، وكفَ عن الطعام، وراحت أمي تعمل لتوفر لنا الطعام حتى لا نجوع، فكيف لنا ان لا نعيش لنأكل، وبأي حق يردد الجميع اننا نأكل لنعيش.
لنا ان نتسائل ، من منا فعلاً يعيش ليأكل، والأكل هنا بمعناه المعنوي والرمزي، قد يكون طعام او مال او مظاهر او مناصب او أي أمر يسعى المرء لتحقيقه لإسعاد نفسه فقط، فعندما ننسى غيرنا ونحصر تفكيرنا في انفسنا فإننا نعيش لنأكل، وتغدو غايتنا الأكل وبلع كل شيء، بأي وسيلة كانت، فالغاية تبرر وسيلتنا.
ثمة الكثرين بيننا كطفلتنا، لا يرون أبعد مما هو الظاهر من معنى الحياة ، فغاية الحياة بالنسبة لهم، لا تتعدى الإبقاء على حياتهم الشخصية، ولئن تطلب ذلك التخلص ممن حولهم، لذلك لا يشبعون، يأكلون طعامهم وأعينهم على طعام غيرهم، يأمنون إيماناً راسخاً ان جميع الوسائل مشروعة طالما انها تبلغهم غايتهم، ولعل ذلك سبب كون بعض الأشرار لا يعون أنهم أشرار، فكل شيء مبرر لهم بطريقة سطحية تؤدي في النهاية الى إشباع جوعهم. الحياة أعمق مما تظهر عليه، وأوجه المساهمة فيها أسهل مما يظن الكثرين منا، يكفينا ان نتحلى بالأمانة والإخلاص وإحترام الأخر، حتى نساهم فيها، وان نبتسم لبعضنا البعض ليعم السلام بيننا، يكفينا إتباع حديث واحد مما قاله رسولنا الكريم حتى نقضى على الضغائن من بكرة أبيها، ” لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه” .
قيمة الإنسان بما يسهم به من عمل لبناء مجتمعه، لا بما يكنزه من مال، او بالدرجة العلمية التى يصل اليها، أو الشهرة التى ينالها، علينا ان نتعلم إختراق الظاهر، والتعمق في معاني الحياة، ان نجتهد في اسعاد غيرنا.
اذا لم يكن هناك اسهام من نوع ما للإنسانية، كان كل ما يملكه الفرد يعتبر طعامه الذي عاش لأجل ان يأكله، انت تأكل لتعيش حينما تساهم وتساعد الأخرين، وتعيش لتأكل عندما لا تفكر الا بنفسك.
خاص لـ ( الهتلان بوست )