كاتبة في جريدة الرياض
شد انتباهي مقال الأستاذ جعفر الشايب حول مهرجان الدمام السينمائي الثاني (الذائقة الفنية والجمالية) في الشرق (23/2/2015) والذي ربط فيه بين الفن والتسامح، بين الفن والتعايش، وكم يرتفع الفن بالذوق وحس التعامل الراقي بين البشر وبعضهم البعض. كما ربط الذائقة الفنية والارتقاء بها بتذوق الجمال حولنا بالحرص عليه نظافة وجمالاً ومتابعة للفنون أيّما كانت سواء تشكيلية أو موسيقية أو سينمائية وتصويرية. وأثار المقال في نفسي كثيراً من الشجون التي أرى أنها تحتاج إلى مجلدات لتناولها ومعالجتها، ابتداء من تلك المتعلقة بالتعليم إلى التمييز الثقافي المناطقي وانتهاء بالتشدد والعنف وصلة ما سبق بالافتقاد للذائقة الفنية والجمالية. فيتفق الغالبية في مجتمعنا بأن هناك مشكلة لدينا في التعامل الإنساني، على سبيل المثال، تعاملاً لا يمكن أن يطلق عليه أنه تعاملٌ راقٍ ابتداء من البيت وانتهاء بالشارع، وهناك مشكلة في التعامل مع البيئة المحيطة بنا، أيضاً ابتداء من البيت وانتهاء بالبر، ومشكلة في التعاطي الفكري والحواري الذي لا يتحمل دوماً رقياً في التحاور، ابتداء من البيت وانتهاء بتويتر.
كم هو تقديرنا واحتفالنا بالألوان المتعددة أو بالأشكال المختلفة أو بثقافاتنا المتنوعة؟ سؤال مفتوح أصبح يطرحه اليوم الكثير من الشباب والشابات من أطراف المملكة يبحثون عن موقعهم شبه المغيب من المكون الثقافي للمملكة. كم من فنون الأطراف نجدها في القلب كما القلب في كل مكان؟
الجمال والتعامل الراقي لفظاً وفكراً لا ينفصل في نموه عن المحيط الذي يستنكر أي لفظة نابية أو تصرف خارج، ويشجع على تخير الألفاظ الطيبة والحسنة واستخدام جمل الاستئذان والشكر والاعتذار منذ نعومة الأظفار. ويتصل بشكل عضوي بالاحترام الذي يُربى عليه الطفل لمن حوله من الأشخاص والحيوان والنبات والجماد، احتراماً يرتبط بالضرورة باستحسان الجمال وتذوقه من حوله. فالجمال ليس شكلاً فحسب وإنما هو أيضاً كلمة وجملة موسيقية ولقطة فنية وتشكيلاً طبيعياً، الجمال تكوين فريد لأشعة الشمس تقترب من الغروب المتخللة من تشكيل سحب تتسلل من نافذة مواربة على سجادة أتقنت نسجها أنامل نساء إيران وأفغانستان. الجمال جملة موسيقية لنغمة من وتر ذبذب الهواء من حوله بإتقان وردت عليه آلة نفخ امتزجت بنفَس الإنسان الذي أبدعه الخالق، وتجاوبت معه دقة إيقاع طبل أو دف أو رق ترقق الروح وتنقلها إلى درجة أرهف من التجاوب مع ألحان الطبيعة والاستماع إلى صوتها في كل ما حولنا. إن الارتقاء بالذائقة الفنية والجمالية لا يُكتفى فيها بأن نعقد مهرجانات فنية بين الحين والآخر ومجتمعنا خلو من التقدير للفن. إنما هي ممارسة يومية تبدأ منذ يولد الطفل وتعززها البيئة التي تحيط به.
إن أبسط ما يعنيه الفن هو أن يجد الإنسان لنفسه موقعاً في الكون الذي أبدعه الخالق والذي جعل في كل جنب من جنباته صورة وفكرة ونغمة لتولد المزيد من المتواليات الإبداعية والتي تخرج بالإنسان من نطاق المادية المحيطة به والمقيدة لملكاته إلى فضاء أرحب من الحس الروحاني غير المادي. وهذا يقودنا إلى الارتباط الوثيق بين التدين العميق المبني على التأمل في خلق الله وما حبانا به من جمال في طبيعة كونية وفي داخل أنفسنا هي بحاجة للتنقيب عنها وتلمسها وتذوقها.
فالفن تعبير، والوسيط يمكن أن يكون ضربة فرشة أو صوت أو نغمة أو حركة أو لقطة أو كلمة، والفن أيضاً جمال وحس وذائقة تستشعر ذلك كله. وهو ليس معبراً دوماً عن الجمال الحسي قدر ما هو أداة تعبير مهمة للروح والنفس بكل خلجاتها من رضا وألم أيضاً. ومن يقدّر الفن ويتعامل بذوق عال نادراً ما يلجأ للعنف أو التطرف في الرأي، لما يدركه وتدركه من الفضاء الواسع للتعبير وللاختلاف وللتعدد وللجمال وكذلك للقبح الذي ترفضه الذائقة بكل أشكاله. من يجمعهم تقدير الفن والإبداع، نادراً ما يلتفتون إلى سفاسف التحيز والتمييز والإقصاء، الفن يدعو بالضرورة إلى الالتفات إلى الإنجاز قبل الأشخاص، عمل الإنسان هو من يتحدث وليس منتجوه.
ولكي ينمو الفن ويعبر عن مكنون الدواخل يحتاج لمقومات بات متعارفاً عليها وعلى رأسها توفير الحرية والتسامح واللذان يعتبران عماد مقاومتنا لبذور التطرف في مجتمعنا، فهذه أبسط آلية لمقاومة العنف وتحتاج إلى دعم واستثمار في أفكارها.
كل ضرب من ضروب الفن تسري عليه قوانين إبداعه وتدريبه وضوابطه وفضاءاته وما يمكن أن تضيفه إلى تكوين أطفالنا ونموهم الفكري والحسي والتربوي والإبداعي الغائب عن مناهجنا المنزلية والمدرسية. وفي ظل هذا الغياب والفراغ نتركه ليُملاً بكل ما لا نريد له أن يملأ هذه النفوس البريئة التي تمضي أيامها تبحث عن معين ثقافي يشبع فضولها وإحساسها ووقتها وأحلامها في عالم لم يبق فيه إلا عنف البلاي ستيشن وسلالاته وبشاعة حروبه الافتراضية التي.. لم تعد افتراضية.
المصدر: الرياض
http://www.alriyadh.com/1025914