كاتب و محلل سياسي سعودي
يدرك أي مراقب أن زمن دولة الأسد في سورية انتهى. قد يطول أو يقصر زمن النهاية، وكلف السوريين كثيراً حتى الآن، لكن بشار الأسد لم يعد خياراً لكل الأطراف المعنية بالأزمة، ما عدا – ربما – إيران. في الداخل ومع كل هذا الدمار الذي أوقعته قوات النظام في أغلب المدن السورية، ومع كل الدماء التي سالت ولا تزال تسيل على التراب السوري، وعدد النازحين الذي يتصاعد في شكل يومي، يصعب القول أن أكثر من بعض الطائفة العلوية، وبعضاً من أبناء الأقليات الأخرى، يقف إلى جانب النظام. كل المظاهر الخارجية التي توحي بأن بشار يحظى ببعض الدعم، ما هي إلا أمر مفروض بالقوة على الجميع، وأن أي خيار آخر سيكون مكلفاً لمن يقدم عليه، ونائب الرئيس، فاروق الشرع، وما انتهى إليه، شاهد على ذلك! تحوّل الشرع الذي كان من أخلص حلفاء النظام إلى عبء سياسي عليه، فلا النظام يستطيع تصفيته في الظروف الحالية، ولا يسمح له بالخروج حتى من بيته من دون مرافق. رفيق الأسد الأب أصبح رهينة الأسد الابن، ولذلك يمكن القول أن نصف الشعب السوري، على أقل تقدير، يريد رحيل النظام، ورحيل الأسد تحديداً بأي ثمن. وهذا واضح من ثلاثة مؤشرات: أولاً: حجم المعارضة العسكرية التي تستنزف النظام عسكرياً، وثانياً: أن المعارضة السياسية في الداخل، وتحديداً الهيئة الوطنية للتنسيق، لا ترى حلاً من دون سقوط النظام، وثالثاً: أن المدنيين، وعلى عكس ما كانت عليه الحال في بداية الثورة، خرجوا، بل أخرجتهم دوامة الأحداث من الأزمة، والأرجح أن أغلبية هؤلاء على الأقل باتت تدرك أن الحل الأمني الذي اختاره النظام أصبح مكلفاً للجميع، وعلى كل المستويات البشرية والاقتصادية والسياسية، بل وكشف هذا الحلّ عن بشاعة الطبيعة الدموية للنظام، وأنها لن تقود في الأخير إلا إلى مزيد من الدماء والدمار للجميع.
على الجبهة الخارجية، فقد نظام بشار شرعيته ووظيفته إقليمياً ودولياً، وهذا واضح من عدد الدول العربية والإسلامية والأجنبية التي إما طالبت برحيل الأسد، أو أصبحت لا ترى أي مبرر شرعي أو سياسي لبقائه في الحكم! بعبارة أخرى، أضحى بشار بعدم قدرته على اجتراح حل سياسي للأزمة، ولجوئه منذ بداية الثورة إلى حل أمني دموي، مع إصراره عليه، عبئاً على الجميع.
وحتى روسيا بمواقفها المعلنة، والمتناقضة أحياناً، تريد أن توحي أنها ليست مع بشار، لكنها ليست مع خيار إسقاطه عسكرياً من دون تفاوض، وهي تنطلق في ذلك من أن خيار الإسقاط مكلف، وسيطول أمده، فالنواة العلوية الصلبة في المؤسسة الأمنية لا تزال مع الرئيس، ومدعومة من إيران، وأنها ذاهبة في الدفاع عن النظام إلى أبعد حدّ. في الوقت نفسه، تدرك موسكو أيضاً أن اعتماد بشار على هذه النواة، وعلى إيران الشيعية، ومعها «حزب الله»، يؤكد الطبيعة الطائفية لنظامه ولتحالفاته الداخلية والإقليمية، الأمر الذي سيضاعف من عزلة النظام في الداخل، وبالتالي يغذي المقاومة ضده، وهنا تبدو عناصر التوازن على الأرض، والتي أدخلت الأزمة في حال جمود مدمر.. قدرة عسكرية للنظام مدعومة من إيران، ولكنها تفتقد إلى قاعدة شعبية في الداخل، ومقاومة في الداخل تفتقد لقدرة الحسم العسكري، لكنها تتمتع بتأييد من الداخل والخارج، وهذا تحديداً مؤشر إلى أن مستقبل النظام أضحى خلفه، ولم يعد يملك ما يعتمد عليه إلا إيران.
وصول الأزمة إلى هذا المنعطف يعطي الموقفين الأميركي والروسي دور الحسم، أضف إلى ذلك الموقف العربي المأزوم، والذي عبّر عنه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل الأسبوع الماضي، عندما قال أن «العرب في مأزق أمام الحالة السورية». في العمق تدرك موسكو أن بقاء الأسد لم يعد في النهاية خياراً يمكن المراهنة عليه، لكنها لا تريد أن تقدم موقفاً مجانياً، ومن دون مفاوضات. تدرك أن سقوط الأسد يمثل خسائر كبيرة لها في المنطقة، وهي تحاول الحد من ذلك، وتعرف أن الغرب عزّز مواقعه في المغرب العربي بعد سقوط القذافي، والآن من خلال التدخل الفرنسي في مالي، ولذلك فإن سقوط الأسد من دون ترتيبات معها سيترتب عليه خروج روسيا من المشرق. وإلى جانب ذلك تخشى موسكو من تداعيات سقوط النظام السوري على إيران، ومن ثمّ على جوارها، فيما يشبه عملية «الدومينو»، وهذا قد يعزز من التعاون الروسي الإيراني. لكن صورة إيران بعد سقوط الأسد، مضافاً إليها عزلتها الإقليمية والدولية، لا تبدو مغرية كثيراً. من ناحيتها، لا يمكن لطهران تجاهل حقيقة أن مرحلة بشار تقترب من نهايتها، فلماذا إذاًَ تحاول بمواقفها المعلنة التأكيد على دعمها لبشار، وأنها تعتبره خطاً أحمر؟ لا تعكس هذه المواقف بالضرورة تجاهلاً للواقع، بقدر ما هي محاولة لوضع ورقة تفاوضية على الطاولة. لا شك في أن طهران تتمنى بقاء الأسد، وهي مستعدة لدفع ثمن تحقيق ذلك، لكن واقع الأزمة وتطورات الأحداث لا تسير في هذا الاتجاه.
ماذا عن الموقف الأميركي؟ يبدو أن وزير الخارجية القادم، جون كيري، يستشعر حقيقة الموقف الروسي، ففي جلسة الاستماع لتثبيت ترشيحه في مجلس الشيوخ قال: «إن بشار الأسد يعتقد أنه لا يخسر، والمعارضة تعتقد أنها تكسب… لكن لديه مجرد أمل حيال تحول الموقف الروسي… لأنه الطريق الأسهل لتغيير حسابات بشار الأسد». المفارقة أن الموقف الأميركي ليس مأزوماً بالدرجة التي عليها المواقف الأخرى. لا تبدو واشنطن في عجلة من أمرها، فخصومها الروس والإيرانيون يستنزفون أنفسهم في الأزمة السورية، من دون أن تدفع هي أي ثمن لتحقيق ذلك.
عين واشنطن في سورية ليست في الحقيقة على دمشق، وإنما على طهران، فلم تعد سورية كما كانت عليه في القرن الماضي، وموقف واشنطن واضح حتى الآن: رحيل الأسد، ومنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وبعد ذلك هي مستعدة للتفاوض مع طهران على كل شيء كما يبدو، وهنا يظهر مأزق الجمهورية الإسلامية في أن عليها التخلي عن بشار، بحكم الظروف، والتخلي عن السلاح النووي للتفاهم مع الأميركيين. هل تستطيع ذلك؟ يخشى الأميركيون من انهيار الدولة في سورية، وذلك سيكلفهم كثيراً، لأن سورية على حدود إسرائيل، وبالتالي لا يمكنهم عدم التدخل في هذه الحالة، مع ما يحمله ذلك من أكلاف مالية وعسكرية وسياسية، ولذلك فهم لا يملكون في الوقت الراهن إلا عدم فعل أي شيء قد يدفع الأمور في اتجاه انهيار الدولة السورية. الغريب أن العرب، الطرف المعني أكثر من غيره، عامل رئيس في وصول الأزمة السورية إلى ما وصلت إليه، وقبل سورية، فشل العرب في فلسطين، كما في العراق. الأزمة السورية لعنة عربية أخرى!