أدى الارتفاع الفلكي للإيجارات الى تحويل وسط لندن إلى منطقة “محظورة” على سكن الأسر العادية، فمتوسط الإيجارات الشهرية يبلغ الآن نحو خمسة آلاف جنيه استرليني (نحو 29 ألف ريال) وفقا لآخر الأبحاث.
وجلبت المستويات الفلكية من الإيجارات التي يتقاضاها بعض أصحاب العقارات نقمة الأسر البريطانية والصحافة، التي دعت الحكومة لوضع حل لهذه المشكلة، وضبط الإيجارات، قبل أن تتحول العاصمة إلى “معازل للمليونيرات”.
فتكلفة استئجار شقة أو منزل في عاصمة الضباب زادت ثمانية أضعاف الزيادة في الأجور خلال العام الماضي، في الوقت الذي لم تزد فيه أسعار إيجارات المحال التجارية إلا بنحو 2.8 في المائة.
وقال لـ “الاقتصادية” مارك ليتن أحد العاملين في تأجير العقارات في منطقة هامرسميث: “إن الارتفاع يرجع إلى الطلب المتزايد على الشقق والمنازل في لندن، بينما المعروض محدود، خاصة عندما يتعلق الأمر بمنازل تصلح لإقامة شخصين أو أسرة فيها أطفال، وتزداد عملية الشراء صعوبة بسبب طلب المصارف دفعة مقدمة لا تقل عن 10 في المائة من إجمالي سعر العقار، وهي لا تقدم التسهيلات المالية المطلوبة بسبب الأزمة الاقتصادية الراهنة”.
وتشير آخر الدراسات إلى أن متوسط الإيجار الشهري في أحياء لندن البعيدة عن وسطها بلغ خلال الشهر الماضي 1106 جنيهات استرلينية، بزيادة تقدر بـ 7.9 في المائة سنويا وهو أعلى سعر سجل لإيجار العقارات في تاريخ لندن.
وتركزت أعلى معدلات الزيادة في الإيجارات فيما يعرف “بالحلقة الداخلية” من أحياء العاصمة، والتي تصلح لسكن الأسر في الأساس مثل مناطق فولهام، وكلافام، وشيبرد بوش.
وأوضح لـ “الاقتصادية” ديفيد زاك من وحدت الأبحاث العقارية في مؤسسة أندرو ريف للبيع وتأجير الوحدات العقارية طبيعة الأزمة قائلا: “العاصمة أضحت مكتظة بالسكان، وهناك القليل مما يمكن القيام به لزيادة المعروض من الوحدات العقارية، فالإيجارات الآن ملتهبة، والزيادة الراهنة تقدر بـ 81 جنيها استرلينيا شهريا، بينما الرواتب تتحرك بالكاد، وأغلب التوقعات أن يتواصل ارتفاع الإيجارات خلال الفترة المقبلة”.
ويقدر خبراء أن أكثر من ربع سكان لندن يستأجرون الآن من أصحاب العقارات الخاصة مباشرة مقارنة بـ 14 في المائة فقط عام 1991م، لكن كثير من المستأجرين يتهمون أصحاب العقارات بالتعامل معهم “بعجرفة”، في ظل إدراك الملاك أن المستأجر لن يكون لديه مقدرة على الانتقال إلى منزل أو شقة أخرى بسهولة.
ومن أبرز الظواهر التي صاحبت الارتفاع المتواصل في أسعار الإيجارات عدم الانضباط من قبل المستأجرين في دفع الإيجارات، سواء في موعدها أو بالقيمة المحددة لها شهريا، وقال لـ “الاقتصادية” روب كامبل من شركة المأوى الخيري للإسكان: “الارتفاع المتواصل للإيجارات في العاصمة يمارس ضغوطا متزايدة على المواطنين، فهم يقاتلون للبقاء واقفين على أقدامهم، خاصة أن ارتفاع الأسعار طال كل مناحي الحياة باستثناء الرواتب”.
وتابع: “أبحاثنا تشير إلى أن نحو ثلثي سكان لندن يعاني في دفع الإيجار، أو يتخلف عن دفعه في موعده، وعليك أن تنسى حلم شراء منزل في مثل هذه الظروف”.
ودفعت الأزمة الناجمة عن ارتفاع الإيجارات بالبعض إلى التظاهر ضد الحكومة البريطانية، مطالبين بإعادة النظر في سياستها الإسكانية، ودعا البعض رئيس الوزراء ديفيد كاميرون ووزير المالية جورج أوزبورن إلى وضع سقف لزيادة الإيجارات.
وبرّر هؤلاء مطالبهم بأن ارتفاع إيجارات المنازل، وعدم قدرة المستأجرين على السداد، يدفع بالملاك إلى طردهم من منازلهم، وهو ما يجبر الحكومة البريطانية – وفقا للقانون – على توفير سكن لهم، ما يمثل ضغطا على الميزانية العامة، وزيادة النفقات الحكومية.
لكن السلطات البريطانية أعلنت بشكل صريح أنها لا تفكر في العودة لسياسة فرض حد أعلى على الإيجارات السكنية، لكنها أكدت أحقية حصول المستأجر الذي يدفع أكثر على خدمة أفضل، سواء تعلق الأمر بصيانة العقار أو تجديده، كما تدرس بلدية لندن أيضا تمديد عقود الإيجار لعدد أطول من السنوات، بدلا عن النظام الراهن والمحدد بستة أشهر أو سنة.
ويعتقد جون دين من حزب العمال المعارض أن المشكلة تكمن في العلاقة بين الطلب والعرض، لكنه يحمّل المسؤولية على التحالف السياسي القائم بين المحافظين والليبراليين الديمقراطيين، وقال لـ “الاقتصادية”: “هناك خلل بين العرض والطلب، لكن جوهر الخلل يكمن في السياسيات الإسكانية الراهنة، فنحن ننفق 100 مليار جنيه استرليني سنويا على إعانة السكن لمن لا يملك مأوى، فنمنحهم سكنا وتقوم الحكومة بالسداد أو دفع قيمة الإيجار شهريا، بينما ننفق فقط 4.5 مليار جنيه استرليني لبناء منازل جديدة”.
وتابع قائلا: “يجب عكس الصورة، أن ننفق أكثر على بناء منازل جديدة، ومن ثم ستتقلص إعانة السكن وستنخفض الإيجارات”.
وتشير البيانات المتاحة من قبل الوكلاء العقاريين إلى أن أعلى إيجارات العاصمة هي منطقة “دبليو إس 1” التي تضم النخبة من سكان لندن، مثل منطقتي “بلغرافيا” و”نايتس بريدج”، ويبلغ فيهما متوسط الإيجار الشهري 6171 جنيها استرلينيا (نحو 35 ألف ريال)، يليهما المنطقة “دبليو 1″، وتغطي منطقتي “ماي فير” و”مرلبونو سوهو”، حيث الإيجار الشهري يصل إلى 5493 جنيها استرلينيا شهريا (31500 ريال سعودي)، بينما يبلغ الإيجار في “تشيلسي” 5442 إسترلينيا شهريا (31 ألف ريال سعودي).
ووصف لـ “الاقتصادية” ستيفن دلو المدير في إحدى شركات العقار في وسط لندن الوضع الراهن بالقول: “لقد تم رفع الإيجارات إلى مستويات فلكية في مناطق مثل ميدان سلون، وكينسينجتون ونايتس بريدج من قبل المليونيرات والأثرياء. هذه المناطق هي الأرقى ليس فقط في لندن أو أوروبا بل ربما في في العالم”.
وتابع: “من سيقيم في هذه المنطقة لا يدفع فقط قيمة المنزل أو العقار، بل أيضا سمعة الحي الراقي، ومستوى الأمن والخدمات. الأثرياء الأجانب الذين يمتلكون العقارات في هذه المناطق نادرا ما يقومون بتأجيرها. وقد قلص ذلك من عدد المنازل المتاحة للسكن في تلك المناطق الثرية، ومع تزايد الطلب قفزت الأسعار إلى مستويات فلكية”.
وتشير دراسة حديثة لمركز لندن للاستثمار إلى أن تكلفة إيجار أستوديو صغير في وسط العاصمة يبلغ الآن 1400 جنيه استرليني شهريا في المتوسط، أما الأسر التي في حاجة إلى ثلاث غرف نوم أو أكثر، فإن ميزانيتهم الشهرية يجب ألا تقل عن ثمانية آلاف استرليني في الشهر، وإلا عليهم البحث في مناطق أخرى بخلاف وسط لندن.
وإذا كان متوسط الإيجار حاليا في وسط لندن يبلغ نحو خمسة آلاف استرليني شهريا أي 60 ألفا سنويا، فهو ووفقا للإحصائيات المتاحة ضعف متوسط الرواتب السائدة في العاصمة، وهذا المبلغ كان كفيلا بشراء منزل متوسط الحجم في ضواحي لندن حتى عام 1986م.
وقال لـ “الاقتصادية” المعماري ميتشال سميث: إنه لا يجب النظر إلى النصف الفارغ من الكوب فقط، والارتفاع الراهن في الإيجارات يأتي جراء القيود المشددة، والشروط المعقدة، التي تفرضها المصارف على منح قروض للراغبين في شراء منزل، ومن ثم فإن المواطن البريطاني لا يجد غير الاستئجار حلا لمشكلاته ما يرفع الإيجارات.
وأضاف: “الآن واحد من كل خمسة مواطنين يدفع 60 في المائة من دخله للإيجار، والفروق أضحت كبيرة للغاية بين مناطق العاصمة المختلفة، فمثلا الفرق في الإيجار بين الأحياء الرقية والأحياء الشعبية بلغ سبعة أضعاف، وقد زاد معدل الإيجار في منطقة نايس برديج بنحو 9.5 في المائة، وفي ماي فير 4 في المائة”.
ويعتقد سميث أن لهذه القفزات الفلكية إيجابيات، أبرزها: “دفع السكان إلى ضواحي لندن وخارجها. بدلا من التكدس الراهن في قلب لندن، فإن أعدادا متزايدة من المواطنين تغادر إلى أطراف العاصمة، بل وتغادر لندن بأكملها إلى مدن وبلدات قريبة ولهذا العديد من الفوائد”.
كاتلينماكينا جونز وزوجها كريس جونز ممن غادروا لندن وانتقلا إلى مدينة برايتون الساحلية جراء ارتفاع الإيجارات، وقالت لـ “الاقتصادية” كاتلين: “كنا نقيم في منطقة تشيسوك في غرفتي نوم ضيقتين للغاية، لكن وكيل مالك العقار أخبرنا عند تجديد العقد أن الزيادة ستكون 40 في المائة، وراتبي أنا وزوجي لم يرتفع، ومع زيادة فواتير المياه والكهرباء والمواصلات، كان من المستحيل علينا أن ندفع هذه الإيجار، فانتقلنا من لندن إلى برايتون”.
كما قال زوجها كريس: “كنا ندفع في الأسبوع 350 جنيها استرلينيا إيجارا لغرفتي نوم، وأصحاب العقار يريدون زيادة السعر إلى 495 استرلينيا أسبوعيا. إنه الجنون بحد ذاته. أدفع الآن نصف الإيجار الذي كنت أدفعه في لندن، والمدينة أقل تلوثا، وحصلنا على منزل من ثلاث غرف نوم ولهذا سنقوم بالشراء في العام المقبل”.
وقال لـ “الاقتصادية” جيمس إستايفيل أستاذ مادة حسابات الاستثمار في جامعة مانشستر: إنه وسط هذا الترحيب الراهن من الحكومة بانتقال الناس للإقامة خارج لندن، لا أحد يتحدث عن الخسائر الإجمالية في الاقتصاد، نتيجة الوقت الضائع في المواصلات والتأخر عن العمل، ولا يوجد دراسات تفصيلية لها حتى الآن، “لكن مبدئيا ستقدر بمليارات الإسترليني”.
ويضيف جيمس: ” ارتفاع أسعار الإيجارات يمثل فرصة ذهبية للاستثمار فيما يعرف في بريطانيا بالشراء من أجل الإيجار، فهذا حل مثالي لمواجهة معدلات الفائدة المصرفية الهزيلة. المستثمر في مجال الشراء من أجل الإيجار يمكنه أن يحقق عائدا يراوح بين 5.5 في المائة، إذا استثمر في مدينة برايتون، وأكثر من 7 في المائة إذا استثمر في وسط لندن.
المصدر: الإقتصادية