ويليام رو
ويليام رو
دبلوماسي أميركي سابق، عمل في سفارات الولايات المتحدة في ست دول عربية

أبوظبي.. الدبلوماسية الثقافية والانفتاح على العالم

آراء

قبل عشرين عاماً كنت في أبوظبي بصفتي سفيراً للولايات المتحدة لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، وبعد مرور كل هذه السنوات عدت قبل أسبوع بصحبة زوجتي إلى أبوظبي، فهالني حجم التطور الذي شهدته المدينة والتغيرات الكبرى التي حصلت منذ تلك الفترة. فقد طالعتني المباني الجديدة بمعمارها الجميل والفريد من نوعه، واطلعت على المرافق الاجتماعية المختلفة وأماكن الترفيه المتنوعة، إلا أنه سرعان ما لفت انتباهي أمراً آخر أكثر أهمية تمثل في المؤسسات الأكاديمية والثقافية غير المسبوقة التي احتضنتها أبوظبي، وإلى جانبها تلك التي شكلت مفخرة الإمارة منذ تواجدي فيها مثل كلية التقنيات العليا، يضاف إليها جامعة نيويورك، فرع أبوظبي، التي أتيحت لي فرصة زيارتها وتفقد مبانيها والاطلاع على برامجها الأكاديمية، ثم انتقلنا إلى المرافق الصحية والتي كان أهمها مستشفى كليفلاند أبوظبي الذي يعد معلمة صحية شيدت وفقاً لأعلى المعايير الطبية في العالم، وهي المنشأة التي لا تختلف في شيء عن مثيلتها في الولايات المتحدة وتضاهيها في الرقي والتميز، هذا الصرح الصحي الكبير عندما سيفتح أبوابه في غضون الأشهر القليلة المقبلة سيضم أكثر من مائتي طبيب في شتى التخصصات والمجالات الصحية، وسيوفر خدامته الاستشفائية لعموم المنطقة.

وبعد جولتنا داخل جزيرة أبوظبي انتقلنا إلى الجزر القريبة التي تم تطويرها خلال السنوات الماضية وأعيد تأهيلها لتتحول من جزر شاغرة إلى منابر لاحتضان الثقافة والفن، فكانت دهشتنا كبيرة ونحن نحط الرحال في جزيرة السعديات التي تستضيف على أرضها أحد أرقى المتاحف العالمية مثل جوجنهايم ومتحف اللوفر، وهي من الأمور التي لم تكن موجودة أثناء عملي سفيراً في الدولة قبل عشرين عاماً.

وخلال زيارتنا استمتعت بحضور عدد من الفعاليات التي نظمتها الإمارة مثل مهرجان الموسيقى والفن في أبوظبي الذي تحول إلى حدث ثقافي ينظم سنوياً ويحظى باهتمام واسع إن في داخل الإمارات، أو خارجها.
وقد كانت الفعالية رائعة بكل المقاييس، ففي اليوم الذي وصلنا فيه إلى أبوظبي غنت فنانة الأوبرا الأميركية، ريني فليمينج. وفي مناسبة أخرى من الفعالية التي تستمر على مدى شهر كامل، ألقى عازف البيانو الأميركي، «هربي هانكوك»، عرضاً رائعاً، فيما شاركت أوركسترا الشباب الأوروبية تحت رئاسة المايسترو «فلادمير أشكنازي»، وأيضاً حضر عازف القيثارة المشهور «ميلوس»، الذي شارك بعرض أتحف الجمهور، وإلى جانبه كان «جوستافو دوماديل» من الأوركسترا الفنزويلية، وبالطبع تُمثل هذه الفعاليات الفنية تطوراً جديداً بالنسبة لأبوظبي ما كان موجوداً قبل سنوات قليلة فقط.

فما الذي يجري في أبوظبي التي يبدو أنها على الطريق لتصبح صرحاً عالمياً للثقافة والفن؟ وما الذي يبرر ذلك؟ أولا من الضروري التأكيد على حفاوة الإمارات العربية المتحدة، ولعل ذلك أحد الأسباب التي تدعو لاحتضان الفعاليات الثقافية الكبرى.

والسبب الآخر المرتبط بالحفاوة أيضاً هو تقليد التسامح الراسخ لدى شعب الإمارات وقبول الآخر المختلف واستقبال الأجنبي دون تحفظ إلى درجة أني أعرف عدداً من أصدقائي الأميركيين فضلوا الاستقرار في الإمارات العربية المتحدة حتى بعد انتهاء عقودهم لأنهم أحبوا المكان، لكن هناك أيضاً عامل آخر يفسر الإقبال على تنظيم التظاهرات الثقافية المميزة عدا الحفاوة والتسامح، وهي الرغبة لدى قيادة أبوظبي في تشجيع التواصل بين الشعوب والثقافات من خلال الأنشطة الثقافية والتعليمية والصحية.

ولعل ما يدل على ذلك حرص المنظمين للفعاليات الثقافية المختلفة طيلة شهر مارس المنصرم على طابعها الثنائي، أو المزدوج، فعندما اعتلت المغنية الأميركية، «ريني فليمينج» المسرح للغناء شارك مغني إماراتي في البرنامج نفسه، وقبل مشاركة الأوركسترا الأوروبية سبقتها إلى المسرح فرقة محلية من الشباب الإماراتي قدموا وصلات غنائية ورقصات فلكلورية، كما قدمت فتاتان إماراتيتان معزوفة رائعة على آلتي العود والقانون خطفت ألباب الجمهور الحاضر، بحيث يبدو حرص المنظمين واضحاً على إيصال لغة الموسيقى العالمية بكل أنواعها المحلية والعالمية إلى الجمهور.

وأكثر ما أدهشني خلال زيارتي الأخيرة إلى أبوظبي الاستخدام الأمثل لموارد الدولة من قبل القيادة الحكيمة خدمة لقضايا مهمة لا تقتصر فائدتها على الإماراتيين، بل تمتد منفعتها إلى العالم أيضاً. ففي مستشفى كليفلاند على سبيل المثال سيعمل فريق من أفضل الأطباء الأميركيين على تقديم خدمات استشفائية متطورة إلى الجميع دون استثناء، فيما ستوفر جامعة نيويورك، فرع أبوظبي، خبرات تعليمية راقية ومتميزة إلى المجتمع وستعمل الجامعة جنباً إلى جنب مع الأكاديميين الإماراتيين للرقي بالتعليم الجامعي، وهي المهمة التي تدعمها القيادة في أبوظبي وتمولها.

وحتى في العروض الثقافية والفنية التي تحتضنها الإمارة فإنها تحظى برعاية كريمة من قيادة أبوظبي وتدعمها مالياً، ويبدو أننا إزاء نوع جديد من الشراكة وظاهرة متفردة يمكن أن نطلق عليها «الدبلوماسية الثقافية».

فخلال مهرجان أبوظبي نظمت حلقة نقاشية حول الموضوع واتفق الجميع على أن الدبلوماسية الثقافية تختلف عن نظيرتها التقليدية.

فإذا كانت الدبلوماسية التقليدية تعني التواصل بين الحكومات عبر القنوات المعروفة، فإن الدبلوماسية الثقافية تحيل إلى نوع آخر من التواصل يجري بين الحكومات والرأي العام في البلدان الأجنبية، ليس من خلال القنوات الرسمية للدول، بل عبر المهنيين في القطاعات المختلفة سواء كانوا موسيقيين، أو فنانين، أو مربين، أو أطباء أو غيرهم، لذا أعتقد أن القيادة في أبوظبي اختارت الانخراط في أنشطة تصب في تعزيز الدبلوماسية الثقافية على نطاق واسع خدمة لأهداف أسمى تتمثل في التقريب بين الثقافات والتواصل الفعال مع شعوب العالم، والأهم من ذلك كله خدمة المجتمع المحلي وإبراز قيمه الأصيلة، فالعمل الجبار الذي تقوم به الصروح الثقافية والأكاديمية والصحية في أبوظبي أكانت جامعة نيويورك، أو مستشفى كليفلاند، أو متحف جوجنهايم لا يقتصر فقط على التواصل مع شعوب العالم والانفتاح على ثقافاتها، بل أيضاً إتاحة الفرصة للشعب الإماراتي ومعه المواطنون العرب للارتقاء بذوقهم والتواصل مع العالم عبر أفضل مؤسساته الثقافية والأكاديمية.

المصدر: الاتحاد