هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

أشد من القتل

آراء

كأنه لم يكن يكفي أن يعيش أربعة أطفال دون أم، معتقدين بأنها ماتت منذ أن كانوا صغاراً كما قيل لهم، لتنشأ ثلاث فتيات وأخوهن الوحيد محرومين من متعة دفن رؤوسهم في أحضانها، ويتربوا في منزل سُلبت منه جميع متع الحياة الطبيعية ووسائل الترفيه، وفقدت فيه مشاعر الحب والحنان الذي يحتاج له أي طفل أثناء فترة نموه، فلم يعرفوا سوى كثير من القسوة والحرمان التي فرضها عليهم شخص كان من المفترض أن يكون سنداً لهم فبعد أن طلّق والدتهم، حرمهم من رؤيتها منذ أكثر من 11 سنة، ولم يكن ذلك كافياً بل حرم الفتيات من حق التعليم بعد أن منعهن من الذهاب إلى المدرسة، وحُرمن أيضاً من العيش مع أخيهن الوحيد الذي طُرد من المنزل وأبعد عنهن منذ تسع سنوات، حيث لم يسلم هو الآخر من التعذيب والضرب بالسلاسل الحديدية والمفكات، فظل الصبي مشرداً في الطرقات ينام تحت الكباري تارة وفي المساجد تارة أخرى، وأثناء زياراته السرية لأخواته كان يتعذب كثيراً من أحوالهن حين يرى آثار الضرب، وفي كل مرة يكتشف الأب زيارته كان ينهال عليهن بالتعذيب، وحين حاول الأخ إبلاغ حقوق الإنسان، علم الأب وزاد من تعذيبه للفتيات، وعندما ضاقت الأنفس البريئة لم تجد سوى سطح المنزل كمتنفس وحيد للترفيه، ليأتي الجار ويشي بهن، ولا ندري كيف كانت صيغة تلك الوشاية، ولكن ردة الفعل كانت كافية لتجعلنا ندرك حجم الريبة والتشديد التي كانت تحاصرهن!

أشارك الأخ رأيه حين قال «مع الأسف لم تكن لدي أي قناعة بأن حقوق الإنسان ستحميهن»، وهذه القناعة التي تعبر عن فقدان الثقة، لمستها في أكثر من قضية وصلت لبريدي تصف فيه الدور السلبي لهيئة حقوق الإنسان حيث لا يوفر أي نوع من الحماية الحقيقية في قضايا العنف الأسري! ولم أتوقع أن يستمر بنا شدة التراخي والتقصير كمجتمع في إخراج لائحة عقوبات واضحة تحمي الطفل من الضرب والتعذيب في هذا البلد الذي تفهم شريحة كبيرة منه معنى القوامة والولاية بشكل خاطئ، حيث تكسرت أنفسنا لسنواتٍ أثناء متابعة تفاصيل بشعة أودت بحياة أكثر من طفل وطفلة على يد آبائهم، ولأن الإهمال والاستهتار والتهاون يعد جريمة عالمياً، لا نستطيع أن نتجاهل الدور الضعيف والتهاون الذي استقبلت فيه دار الحماية في أبها أكثر من بلاغ يفيد بأن «ريم» وأخواتها كُنَّ يتعرضن للتعذيب من قبل والدهن، بل أعتبرهم شركاء في الجريمة ولا نستطيع أن نتجاهل الموقف السلبي الذي اكتفت فيه إدارة المدرسة برفض الأب بعد الاتصال به لإعادة الفتيات إلى الدراسة، دون أن تتخذ حلاً آخر على الأقل لتُفعّل درس المسؤولية الاجتماعية الذي يدرسنه للطالبات في الكتب فقط، واختفت من أداء المدرسة في المواقف الحقيقية، فلم ترفع الأمر للإمارة مثلاً أو للجهات الأمنية المسؤولة عن الحماية في المنطقة، ولو علم من لهم وصاية على الصغار من الوالدين وغيرهم قبل أن تقع جريمة أخرى، بأن منع الأبناء من التعليم جريمة يعاقب عليها قانون هذه الدولة بالسجن تصل لعشر سنوات والغرامة مثلاً، لما تمادى بعضهم بالاستهتار بمستقبل الجيل القادم الذي عليه مسؤولية بناء هذا الوطن، واليوم ظهرت كثير من الأجهزة بسلبية تبرر فشلها في قضية ريم طفلة السلاسل التي قُتلت على يد والدها، وقبلها بالأمس كانت لمى طفلة الخمس سنوات التي قتلت من الضرب أيضاً على يد والدها، كلتا القتيلتين ضحايا لزواجات انتهت بالطلاق من أمهات استغل فيها الآباء غربتهن ووحدتهن، حين جعلوا من أبنائهن وسيلة لتفريغ الغضب والانتقام وصلت لدرجة الموت، وكان على بقية من نجا من الأبناء أن يتحمّل توابع هذا العذاب بقية حياته، كلا الجريمتين قام بها أبوان أحدهما في رداء داعية، والآخر متقاعد من إحدى الإدارات التابعة للشؤون الإسلامية، الأمر الذي يجعلنا نكرر التساؤل «كيف أتتهم أنفسهم من إزهاق تلك الأرواح البريئة»!

لن تتوقف جرائم العنف الأسري كما يظن بعضهم بالمواعظ والخطب، ولا عن طريق توصيل (ثقافة) دور الأسرة في المجتمع وأهمية حمايتها من العنف، إلا حين تُنشر اللائحة التنفيذية التي تشرح وتفصل عقوبة كل جريمة بداية من الإهمال والحرمان إلى الضرب المبرح، لأن أي فرد قاس أو عنيف لا يخاف الله في أبنائه لن يفهم معنى (ثقافة) ولن يصلح معه سوى السجن والغرامات.

ولأن الله نهانا عن الفتنة في كتابه الكريم، فمن العدل أن يتم معاقبة ذلك الجار الواشي الذي لعب دوراً آثماً في هذه المأساة حين أجرم بدوره في حق الصغيرات واستكثر عليهن الصعود لسطح المنزل، متهاوناً بأن ما فعله كان.. أشد من القتل.

المصدر: الشرق