أي ديمقراطية تبنى على الجماجم؟!

آراء

شكّلت الاضطرابات التي وقعت في المنطقة بآثارها المدمرة والدماء النازفة ميدانا للنقاش الأخلاقي والسياسي والاجتماعي، وهي نقاشات صارخة في تعدد معانيها وتنوع مشاربها وتشعّب مقاصدها، بيد أن الخطأ الأكبر الذي وقع فيه رموز ذلك التغيير، أو ما يسمونه السعي نحو الحرية والعدالة والمساواة وغيرها من الشعارات، تمثّل في استبعاد السؤال الديني بل ومجاملة التطرف الديني، الأمر الذي ارتدّ على المناخ العربي كله. وقد كتبتُ في مايو (أيار) 2012 أن الربيع العربي هو «ربيع تنظيم القاعدة»، وآية ذلك أن مناخات التغيير هيمنت عليها رموز الأصولية وامتُطيت من التيارات المتطرفة الاستئصالية، وحتى الذين لديهم انتماءات ليبرالية وعلمانية باتوا يجاملون هذا الخط الديني ويتحالفون معه بغية إزاحة وهمٍ يسمونه الاستبداد واستبدال استبداد أشد وطأة وأكثر تنكيلا به.

حين انتصر صوت الناشط على تأمل الكاتب، وزعيق الخطيب على تحليل الخبير، وشعارات الشوارع على إمكانيات الواقع، فجّرت الأحداث مكنوناتها، إذ سرعان ما ظهر المضمر والمطمور في تلك المجتمعات. فتحت المظاهرات كوّة واسعة على أنفاقٍ كبيرة مليئة بكل جروح الطائفية والتلذذ بالدماء، والسعي نحو الحرب، وقتل الآخرين، واستيقاظ الأحاسيس القبلية واستذكار النزعات التاريخية.. كل تلك الأمراض لم يكن أي متحمس يظن أنها ستنبعث. وأخطر ما أنتجته هذه الاضطرابات الاستجواب الشخصي لكل إنسان، فإن لم يكن مع الثورة فهو غير إنساني! بينما الأصوب أن الامتناع عن تأييد الثورات والاضطرابات التي جرت وتجري هو موقف إنساني بامتياز؛ ذلك أن دم الإنسان أثمن من جميع الشعارات، بدليل الذي يجري في سوريا اليوم حين يقتل ربع مليون ويهاجر سبعة ملايين إنسان، والقتل ليس كالقتل، إذ تؤكل الأكباد وتبقر البطون ويستأصل الجنين.

لا يمكن لواقعٍ هشّ أن يستخدم ليصنع مستقبلا مشرقا، ذلك أن التغيير يكون من جنس المغيّرين، فلا يمكن أن تقام أسس الحرية على أنقاض الحقد والقتل والتفجير والاستئصال ودعايات الإبادة كما نسمع هذه الأيام، ولا يمكن أن ترسم مجالا للحرية من دون عمق مدني حر يستبعد صيغ التمييز الدينية والقبلية والطائفية، وهذا لم يتوافر في أي بلدٍ عربي، ذلك أن مفهوم الحرية لم يتشكّل أصلا، بل هي مقتصرة على حرية الذات في توبيخ الآخر والاعتداء عليه والعدوان على أثره وبيته وأسرته وعائلته.

لقد وقعت المجتمعات في فخّ الشعارات وضمن أحلام المستقبل التي لا تتجاوز كونها طيفا من حلمٍ عادي لا يمكنه أن يترجم على أرض الواقع الذي يثبت دائما أنه أكبر وأكثر تعقيدا من أن تغيره مجموعة مسيرات وشعارات وبضعة أسلحة ودبابات.

من الخطأ الربط الأخلاقي بين الثورة وتأييدها، ونفي المعنى الإنساني عن المعارضين لأي اضطرابٍ أو تغيير ساذج يبنى على الأكباد والدماء وجماجم الأطفال. هناك مساحة من التأييد أو الامتناع عن ذلك تبعا للمجال الفكري والفلسفي الذي يستخدمه الإنسان، بالمقابل ثمة فلاسفة وأدباء عظماء وقعوا في فخ تأييد الاستئصال لمجرد الوقوع في فخ الشعار والإخفاق في القراءة، مثل من أيّد النازية على ما نقرأ في اعترافات غونتر غراس، وفي مواقف مارتن هيدغر كما يسرد في بعض محاضراته وكما يوضح ذلك يورغن هابرماس في كتابه عنه «هيدغر والنازية»، وكذلك الفيلسوف عبد الرحمن بدوي الذي يورد ذلك في مذكراته.

بنهاية المطاف، هناك فخاخ في الحدث السياسي قد توقع المندفعين في أتون النار باسم الحراك والشعار والأمة الجديدة وسواها من الشعارات في الشرق والغرب.

ومن نتائج الاضطرابات التي دمّرت المنطقة ظهور فصائل وتنظيمات جديدة متوالدة، وأخطرها تنظيم «داعش» الذي يهجّر المسيحيين ويقتل الإيزيديين ويستأصل المخالفين، ويقوم بإعدام ونحر الصحافيين، وهو يروّج للخلافة ويسعى إلى إقامة دولة استئصالية في المنطقة. ولدى التنظيم ثروته التي ما كان ليكسبها لولا مناخات العنف وتفكك المؤسسات وانتشار الدول الفاشلة الهشة العاجزة عن حماية حدودها.

لم تكن الولايات المتحدة مهتمةً بالأخطار التي سيجرها الحراك العربي، بل أرادت أن تستبدل «الإسلام السياسي» بما تقول إنه «استبداد سياسي». ويذكر فواز جرجس، في كتابه «أوباما والشرق الأوسط – مقاربة بين الخطاب والسياسات»: «يقر مستشارو أوباما بأن الاستبداد السياسي هو العرف وليس الاستثناء في الدول العربية، ومن المعروف أن الحكام المستبدين يقمعون المعارضات السياسية المشروعة، ويخنقون المبادرات والابتكارات الشخصية. لقد أدّت سياستهم القمعية والفاشلة على المدى الطويل إلى إرهاق وضعف المجتمعات العربية، وتسببت في فقرٍ مزمن وتفشي الفساد، وصعود التطرف».

هذه وجهة نظر أوباما برواية مستشاريه. لقد كان منطلقا في تأييده للاضطرابات العربية من أحلام مارتن لوثر كينغ وشعارات «لدي حلم» وسواها، وفي نهاية المطاف تبيّن أن ما يصفه أوباما بالاستبداد ليس استبدادا سياسيا، بل هو نسيج هذه المجتمعات العربية وحالها. مجتمعات لم تستعد لفتح أضابير الأسئلة الدينية والثقافية والفكرية والقبلية. لقد غيّرت أربع دول عربية أنظمتها، لكن ما النتيجة؟! لا شيء، المزيد من الاضطراب والخراب والدماء. إن القصة في التربية الثقافية كلها وليست في استبداد سياسي معين.. الطاغية الذي يتحدث عنه الثائر بنهاية المطاف لن يجده في القصر، ذلك أن المناضل لم يكتشف أن الطاغية ثاوٍ بداخله.

المصدر: الشرق الأوسط

http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=786699