أفرزت عملية الاعتداء الصاروخي الإيراني على الطائرة المسيرة الأميركية في مضيق هرمز علامة استفهام كبيرة وخطيرة حول هروب الملالي إلى الأمام، في شكل من أشكال اليأس الاستراتيجي أو الخيار الشمشوني، أي محاولة هدم المعبدين الإقليمي والدولي على رؤوس الجميع.
لماذا تسعى إيران هذا المسعى؟ وهل سيفيدها في خاتمة المطاف، أم أن الأمر سيتعقد بصورة أشد وأقسى، وستجد وجهها إلى الحائط عما قليل؟
المؤكد أن فلسفة الرئيس ترمب وإدارته تقوم على إحداث أكبر حملة من الضغوطات التي تدفع إيران لطاولة المفاوضات، وقد كانت هذه هي رؤية مجمع الاستخبارات الأميركي، الذي قدّر أن هذا المسلك هو الطريق الأنفع والأرفع لإقناع طهران بالتفاوض على صفقة جديدة، مغايرة لتلك سيئة السمعة، التي وقّعها باراك أوباما، وقادت إلى المأزق الحالي، قبل أن ينسحب الرئيس ترمب منها.
أدرك الإيرانيون أن الأميركيين لا يتطلعون إلى الحرب أو المواجهات العسكرية، وأن خطتهم هذه المرة هي خنق إيران من الداخل، ما يجعل نظام الملالي يموت موتاً بطيئاً، أمام أعين شعبه، وهذا الأخير بدا وكأنه ينتفض انتفاضة كارثية تذهب باستحقاقات الثورة الإيرانية مرة واحدة وإلى الأبد.
يخطئ من يظن أن العقوبات الاقتصادية الأميركية لم تؤت أُكُلها، إذ إنها أحدثت شرخاً كبيراً يتعمق ويتوسع كل يوم، ولا سيما بعد أن كشفت وكالة الطاقة الدولية تراجع إنتاج النفط لنحو 210 آلاف برميل يومياً في مايو (أيار) الماضي، وهو أدنى مستوى منذ أواخر الثمانينات. وأوضحت الوكالة أيضاً في تقريرها الشهري أن صادرات إيران النفطية انخفضت بمقدار 480 ألف برميل يومياً، لتصل إلى 810 آلاف برميل، وخصوصاً بعدما شددت واشنطن من عقوباتها النفطية، وعلقت الإعفاءات الممنوحة لـ8 دول من العقوبات النفطية، عبر منعها من استيراد الخام الإيراني، تبعته عقوبات على قطاع البتروكيماويات الإيراني.
يدرك المرشد والرئيس، ومن حولهما رجال «الحرس الثوري»، الموصوم بالإرهاب، أن النفط الخام هو المصدر الأبرز للإيرادات المالية لإيران، ومن دونها لن تكون قادرة على الايفاء بالتزاماتها تجاه المؤسسات العسكرية من ناحية، والاقتصاد الإيراني، وإعالة الشعب من ناحية ثانية.
تنهار إيران من الداخل إذن، وفيما أوضاعها الداخلية تتأزم، فإن أذرعها الميليشياوية في الخارج تبدو في حرج كبير، يصل إلى حد استجداء التبرعات، ما يعني أنها في القريب لن تكون قادرة على القيام بمهام الخنجر في الخاصرة الإقليمية، أو الاستعداد لحروب الوكالة، وعلى غير المصدق أن ينظر إلى صناديق تبرعات، أقامها «حزب الله» على الطرقات.
والشاهد أن الإيرانيين وإن كانوا على درجة عالية من القدرة بالنسبة لتسويف الوقت، فإنهم بحال من الأحوال غير قادرين أو متأكدين، من أن الاستمرار بغير مواجهة إلى حين نهاية الفترة الرئاسية الأولى للرئيس ترمب هو الحل، ذلك أن الرجل أمامه 19 شهراً لمغادرة البيت الأبيض إن أخفق في الفوز بولاية ثانية، وهي فترة طويلة حكماً ستمضي فيها الشؤون الإيرانية إلى انسداد عام تاريخي غير مسبوق، يهدد الثورة أكثر من الدولة، أما إن أحرز نجاحاً متوقعاً له في الفوز برئاسة ثانية، فسيكون البلاء أشد وأكثر هولاً بالنسبة لخامنئي وروحاني وظريف وحسين سلامي، ومن حولهم.
يكاد المراقب المحقق والمدقق للمشهد الإيراني يقطع بأن إيران تسعى الآن إلى إشعال حرب مع الولايات المتحدة بنوع خاص… والسؤال؛ لماذا؟
بداية يمكن الإشارة إلى أنها حاولت ولا تزال استدراج دول المنطقة، ولا سيما المملكة العربية السعودية، إلى مواجهة مباشرة، والأمر نفسه ينطبق على الإمارات العربية المتحدة، من خلال هجمات الصواريخ الطويلة المدى، والطائرات المسيّرة، عطفاً على إعاقة الملاحة في المياه الدولية للخليج العربي، غير أن سياسة النَفَس الطويل للمملكة، وعدم الرغبة في الدخول في حروب، رغم الاستعداد والجهوزية التامة لمواجهة مخططات إيران، فوّتت على الإيرانيين الفرصة، الأمر الذي أربك سياسات الإيرانيين، ودفعهم إلى التفكير في خيار آخر، علّه يكون لهم بمثابة مهرب من الأزمة الداخلية، وتصديرها إلى الخارج.
يعلم الإيرانيون تمام العلم أن هناك خطوطاً حمراء للاستراتيجية الأميركية، تلك التي تتعلق بالأهداف الأميركية في المنطقة، وفي المقدمة منها العنصر البشري، وتالياً اللوجيستيات على اختلاف أنواعها، عسكرية ودبلوماسية، ويدرك «الحرس الثوري» تماماً أن تعريض أي من هذه وتلك أمر دونه بالنسبة للأميركيين قطع الرقاب، ومن هنا كان إسقاط الطائرة المسيّرة بداية طريق التحرش الإيراني بالأميركيين، وهو الأول من نوعه، وقطعاً لن يكون الأخير.
إيران إذن لا تود الركوع للأميركيين، ولا الخضوع لإرادة إدارة ترمب، إنها تريد المضي قدماً في برامجها النووية والصاروخية، والأخطر مشروعها الإمبراطوري للسيادة والهيمنة، والتحول إلى قوة إقليمية مكافئة للآخرين.
لا يتطلع الملالي لإصلاح النظام الإيراني أو الرجوع عن شهوات قلبهم في تصدير ثورتهم ورفع أعلامهم، ولهذا كان الطريق الأقصر بالنسبة لهم هو محاول تفجير الموقف، عسى العالم أن يخاف أو يخشى من الانفجار الكبير القائم والقادم، وتأثيراته على أسعار الطاقة والاقتصاد لعالمي.
الأميركيون يدركون ذلك، ومن هنا ربما نرى ما يشبه الصبر الاستراتيجي على إيران حتى تسقط الثمرة من تلقاء ذاتها، غير أنه من المؤكد أنه عند نقطة صدام بعينها، سيتحول الصبر الاستراتيجي إلى عقاب وانتقام فوق استراتيجي، ويومها سيجد جون بولتون الطريق مهيأ أمامه لتنفيذ استراتيجيته، ومفادها: «لوقف قنبلة إيران، اضرب إيران بقنبلة».
المصدر: الشرق الأوسط