أمير طاهري
أمير طاهري
كاتب و محلل إيراني

«الأرامل السوداء» والحرب ضد بوتين

آراء

أدت الهجمتان الانتحاريتان اللتان وقعتا مؤخرا في مدينة فولغوغراد الروسية إلى جعل روسيا تتصدر عناوين الأخبار مرة أخرى في مشهد ربما كان متوقعا، وذلك قبل أسبوعين من افتتاح فعاليات دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية في سوتشي.

نفذت فتاتان انتحاريتان هاتين الهجمتين، مما أودى بحياة 60 شخصا، على الأقل، بالإضافة إلى جرح الكثيرين. وتعتبر هاتان الفتاتان من بين ما يقدر بنحو 10 آلاف أرملة مسلمة في سن الشباب أو في منتصف العمر، واللاتي قتل أزواجهن في العقدين الماضيين خلال الحرب التي شنها فلاديمير بوتين ضد المتمردين في أجزاء من القوقاز.

أدى هذان التفجيران اللذان وقعا في فولغوغراد إلى لفت الانتباه بسبب العرض الوشيك لافتتاح دورة الألعاب الأوليمبية في سوتشي. بيد أن الصراع المميت الذي أدى بالفعل إلى حصد أرواح ما يزيد على 200 ألف شخص ما زال مستمرا منذ نبذ بوتين للاتفاق المبرم بين المتمردين الشيشانيين والجنرال ألكسندر ليبيد، مبعوث الرئيس بوريس يلتسين. وبناء على ذلك، ظهر أن الحرب التي افترض الكثيرون أنها ستنسى، ليست أي شيء سوى حرب لا يمكن تناسيها.

وقبل أيام فقط من وقوع تفجيري فولغوغراد، قتل حجي مهاشيف، نائب رئيس الوزراء الداغستاني الذي عينته موسكو في جمهورية داغستان التي يقطنها المسلمون بشكل رئيس وجاء منها هاتان المرأتان الانتحاريتان حسبما ورد في الأنباء، في موسكو. وفي هذا الصدد، صار تنفيذ الاغتيالات السياسية في هذه الجمهورية ذاتها جزءا من الحياة العادية. ويحدث نفس النمط المماثل في جمهورية الشيشان وإنغوشيتيا.

توجد النساء المعروفات باسم «الأرامل السوداء»، وهو الاسم الذي أطلق على الشيشانيات اللاتي قمن بعدة عمليات انتحارية في روسيا ولقبن بهذا الاسم نسبة لكون عدد منهن أرامل لمقاتلين شيشان قتلوا على يد القوات الروسية، في الكثير من مناطق المتمردين التي تتحدث اللغة التركية. ويتشكل صراعهن ضد دولة روسيا، التي يقودها بوتين، من مزيج سام من الكراهية العرقية والانتقام القبلي والحمية والتعصب الديني من أجل الاستشهاد.

إن ما تواجهه روسيا اليوم هو استمرار للنزاع الذي يعود تاريخه إلى اللحظة الأولى التي بدأ فيها الروس بوصفهم شعبا متميزا في البحث عن دولتهم.

وفي بعض الحالات، قامت روسيا بتحديد وتأسيس سيادتها القومية على مدار أكثر من قرنين من الحروب ضد الشعوب الألطية في القوقاز وآسيا الوسطى وسيبيريا. واتسعت مساحة الإمبراطورية الروسية طوال القرن التاسع عشر بمعدل 10 كيلومترات مربعة في كل يوم على حساب الشعوب التركية المسلمة لتنتشر في مساحات شاسعة بين جبال الأورال والمحيط الهادي.

وفي هذا السياق، فقد جاءت الخطوة المهمة الأولى تجاه السيادة القومية الروسية عندما هزم القيصر إيفان الرهيب جيوش مملكة التتار، التي كانت تتخذ من قازان مقرا لها، ودمرها. وعليه، فليس من المفاجأة أن تتحول الشعوب المسلمة، بوجه عام والتركية بشكل خاص، إلى اسم «الآخر» و«العدو» في الفلكلور والأدب الروسي، حتى إن موسيقى تشايكوفسكي المشهورة في باليه «بحيرة البجع» لعام 1876 تروي لنا ذلك الصراع.

إن اختيار مدينة فولغوغراد كآخر الساحات للنزاع القديم الذي تمتد فترته لعقود من الزمان، ليس من قبيل المصادفة. كان ذلك المكان من أحد معاقل التتار، في إحدى الفترات الاستراتيجية. وكان هذا المكان وما زال هو البوابة للقوقاز. استحوذ الروس على المدينة المسلمة التي كانت تخضع لحكم التتار في ثمانينات القرن الخامس عشر وطوروها لمدة ثلاثة قرون كقاعدة من أجل التوسع نحو الجنوب على أمل الوصول في النهاية إلى المحيط الهندي عبر إيران.

أعيدت تسمية الجزء الأفضل والأكثر أهمية من غزوات الإمبراطورية الروسية باسم تساريتسينو. ووصلت المدينة إلى حالة خرافية تحت اسم جديد: وهو ستالينغراد (مدينة ستالين) عندما قاومت الغزو النازي وقضت على الجزء الرئيس والأسوأ من آلات الحرب الخاصة بهتلر في عام 1943.

وعلى الرغم من أن بوتين لم يبدأ بالتأكيد جولته الحالية من النزاع التاريخي الدموي بين روسيا والجمهوريات الإسلامية التي خرجت من تحت عباءة الاتحاد السوفياتي، يرجع السبب بشكل جزئي وراء تفاقم الوضع وزيادته صعوبة في منهجه المتحمس في مجال السياسة. إن بوتين غير قادر على تحرير نفسه من الثقافة السياسية السوفياتية التي تؤثر فيه. وكان كل ما فعله هو استبدال حوار يتركز على روسيا بوصفها دولة مسيحية بالحوار القديم. وبمعنى آخر، فإن استراتيجيته معتمدة على المظاهر الأسوأ لسياسات الإمبراطورية الروسية والستالينية وجها لوجه مع الأقليات المسلمة.

وعلى الرغم من ذلك، فقد شهدنا لحظات وجيزة في هذا التاريخ المتسم بالتبدل المتكرر، حينما بدأ المسلمون الروس يشعرون كما لو أنهم قد كانوا جزءا من واقع حقيقي أكبر متسم بالتعددية والتنوع. كان ذلك هو الحال تحت حكم القيصر ألكسندر الأول، في آخر مرحلة من فترة ولاية القيصر نيقولا الثاني وبعد انعقاد الاجتماع العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي حينما كشف نيكيتا خروشوف عن جرائم ستالين وأدانها. شعر المسلمون بأنهم حصلوا على استحقاق المواطنة من الطبقة الأولى عندما صدوا الغزاة النازيين. وفي المقابل، بدا أن الرئيس بوريس يلتسين يتفهم ذلك وقطع شوطا كبيرا من أجل التوصل إلى حل سلمي بشأن «مشكلة المسلمين»، التي يعود تاريخها إلى قرون مضت، في روسيا.

وعلى النقيض من ذلك، قرر بوتين الادعاء بعدم وجود أي مشكلة من هذا القبيل. ويقول بوتين إن المشكلات المتعلقة بـ«الإرهابيين المسلمين» سيجري «القضاء عليها وسحق هؤلاء الإرهابيين مثل الهوام» في كل مكان، سواء في روسيا أو سوريا.

تعتبر حقيقة الواقع الحالي أقل دراماتيكية وأكثر تعقيدا. لا يزال الجهاديون مثل دوكو عمروف يحصلون على القليل من الدعم في داغستان والشيشان. بيد أنهم لا يمثلون أكثر من كونهم أقلية صغيرة من المواطنين الروس.

وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت اليد العليا والأفضلية للمواطنين الروس الأصليين في ضوء الظروف الديموغرافية. بيد أن الوضع الراهن لم يعد كذلك. ففي حين أن عدد هؤلاء المواطنين الروس ينقص بمقدار 700 ألف شخص سنويا، تزداد أعداد الجاليات المسلمة المختلفة في روسيا الاتحادية بسبب المعدل المرتفع لنسبة المواليد. والجدير بالذكر أن عدد المسلمين في بداية القرن الماضي كان أقل من أربعة في المائة من العدد الإجمالي لسكان الإمبراطورية. وفي الوقت الحالي، يصل عدد المسلمين إلى 25 في المائة في ربوع إمبراطورية روسيا الاتحادية.

وبوصفه مسؤولا أمنيا بطبيعته والتدريب الذي تلقاه، يحاول بوتين التعامل مع المشكلات مثل ضابط شرطة. وفي حين يجب سحق هذا الإرهاب البغيض، تتمثل المهمة الحقيقية في تجفيف المنابع التي ينمو فيها الاستياء والظلم الاجتماعي السياسي.

ومن المحزن أن نقول إنه من المحتمل أن تشن «الأرامل السوداء» هجمات أخرى مرارا وتكرارا.

المصدر: الشرق الأوسط