رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

الثورة السورية… قبل وبعد القصير

آراء

سقطت القصير، واحتفل بذلك النظامان السوري والإيراني، ووُزِّعت الحلوى في ضاحية بيروت الجنوبية، وهنأَ خامنئي الأسدَ ونصرالله بالانتصار. وما كان الانتصار بالطبع على إسرائيل، بل على سكان بلدة سورية على الحدود مع لبنان. وقد أعلن «نصرالله» عن بدء القتال فيها قبل ستة أشهُر، وقال إنه يقاتل دفاعاً عن اللبنانيين(الشيعة) في تلك الناحية. ثم قال قبل شهر إنه مضطرٌّ لقتال «التكفيريين» على الحدود وفي دمشق، حيث تُنتهْكُ المقدَّساتُ الشيعية والمزارات. وقبل أسبوعين أضاف إلى هدف قتال التكفيريين: منع نظام الأسد من السقوط، لأنه إنْ سقط سقطت المقاومة في سوريا ولبنان وفلسطين!

ليس من النزاهة في شيء التقليل من شأن ضربة القصير، فالضربة قاسية من الناحية المعنوية على الثورة ومؤيديها، ربما أكثر من قسوتها من الناحية العسكرية والاستراتيجية. ويرجع ذلك إلى أن الثوار استطاعوا الصمود هناك، وما تمكنت كتائب النظام من زعزعتهم رغم تقدمها في مدينة حمص. لذلك تدخَّل «حزب الله» بقوة لمساعدة قوات النظام محتجاً بما ذكرناه. لكنّ الواقع أنّ تدخُّله كان ضمن استراتيجية إيرانية روسية مشتركة، بعد أن ظهر أن النظام ما عاد يملك قوات تتحرك على الأرض، بل مراكز عسكرية محاصرة في أنحاء سوريا باستثناء دمشق. قال لنا خبراء إيرانيون وعراقيون قبل ثلاثة أشهر إنه تشكلت قيادة مستقلة للإيرانيين بسوريا بزعامة الجنرال سليماني، وطلبت عشرة آلاف مقاتل من «حزب الله»، ومثلها من المالكي، على أن يتدبَّر الإيرانيون العدد الباقي. و«حزب الله» والآخرون يقاتلون الآن في عدة أماكن في سوريا من حمص وإلى دمشق وإدلب وحلب ودرعا. وقد ثارت ثائرتهم وسقط لهم قتلى كثيرون في القصير بحيث صار عليهم أن يقدّموا للشيعة الحزبيين انتصاراً يبرر هذه الخسائر. وقد ظلت بلدة القصير أسهل الأهداف لاتصالها بقواعدهم في الهرمل وبعلبك. ومن هنا جاءت الاحتفالية الشنعاء بسقوط «القصير»، والتي كان بوتين قد بشّر بسقوطها قبل ثلاثة أيام، باعتبار معركتها معركة تصفية للإرهابيين الذين يسميهم نصرالله «تكفيريين»! وكما سبق القول؛ فإن صمود القصير جعل الثوار أيضاً يبنون عليها آمالاً، ولهذا السبب، فكما أنّ سقوطها صار كسْباً معنوياً للإيرانيين وأنصارهم؛ فإنه انتكاسة لثوار سوريا تؤثر في معنوياتهم ومعنويات سواهم من العرب في بلاد الشام وخارجها!

لكن، وبعد سقوط القصير، والمذابح التي حدثت فيها وما حولها، ما هي الأوضاع التي تجد فيها الثورة السورية نفسها، ويجد فيها العرب أنفُسَهُم؟ منذ أكثر من شهرين تتقدم قوات الأسد على الأرض ببطء. وقد تبين أنّ هذا التقدم هو بسبب دخول قوات «حزب الله»، والتنسيق الروسي الإيراني السوري العراقي من الناحية العسكرية. وقال اللواء وفيق السامرائي وقتَها إنّ النظام وحلفاءه استعادوا زمام المبادأة. وأبرز جهات التقدم كانت في منطقة حمص، ودرعا، وريف دمشق. ويقال إن استعادة النظام لخربة غزالة على طريق درعا دمشق، أهمّ بكثير من الناحية العسكرية من الاستيلاء على القصير. وما حصل اختراق كبير بريف دمشق، لكنْ بعد القصير قد يحاول الحزب الدخول إلى داريا التي قاومت لأكثر من عام حتى الآن. لكنْ ما يخشاه الثوار أكثر هو التحشُّد من حول حلب لاقتحام ريفها، وفك الحصار عن القواعد والمطار، وربما للدخول إليها. وبينما يقول الخبراء الغربيون إن «حزب الله» والإيرانيين يشاركون بألفي مقاتل، يقول «الجيش السوري الحر»: بل إنهم يشاركون بأربعة آلاف مقاتل، مزوَّدين بأسلحةٍ ثقيلة. وهذا التحشُّد في شمال سوريا هدفه تحدي تركيا، مثلما كان التحشد في نواحي درعا بهدف تحدي الأردن والسعودية. وكان وزير الخارجية الإيراني قد جاء إلى تركيا والأردن والسعودية قبل شهر، وربما أبلغ هذه الجهات بأن إيران لن تسمح بسقوط الأسد.

لكنْ ماذا عن الجانب العربي والإقليمي والدولي؟ ليس من عادة القطريين والسعوديين الحديث كثيراً في الشؤون العسكرية، لكنهم في مجلس التعاون الخليجي صعَّدوا اللهجة ضد «حزب الله»، وكذلك فعلوا في اجتماع الجامعة العربية. ومن المفروض أنهم سيزيدون من دعم الثوار بعد أن اتضح أنّ هؤلاء لا يواجهون قوات الأسد فقط، بل ويواجهون قوات إيران و«حزب الله» والمالكي والروس وحتى الكوريين الشماليين! لكن الملاحظ أن الأردن صار أكثر حذراً عندما أُعلن أخيراً عن إمكان تزويد «الناتو» له بصواريخ باتريوت الدفاعية. والأردن مثل لبنان غارق في مشكلة اللاجئين، وكذلك المؤسسات الدولية. وما يقال عن الأردن يقال عن تركيا، إذ لا ندري كيف ستكون ردة فعلها على التحشُّد الإيراني عند حدودها. والموقف الدولي ليس أفضل حالاً. فالروس مصممون على إبقاء الأسد، والأميركيون موافقون على الحل الروسي الذي لا ندري منه غير اسمه: «جنيف 2». وقد اجتمع الأوروبيون بالروس للمرة العشرين دون أن تكون هناك نتائج ظاهرة. بل إن الروس تحدَّوا إسرائيل أن تحاول الإغارة مرةً أُخرى على سوريا، وأنها إن فعلت فسيعطون الأسد صواريخ «اس 300»! وهناك محاولة قوية لتطويق نجاح بريطانيا في إسقاط الحظر الأوروبي على السلاح للثوار، وقد اضطر ذاك الضغط وزيرَ الخارجية البريطاني للقول إنهم لن يعطوا سلاحاً للمعارضة إلا بعد معرفة نتائج جنيف 2 الذي قد لا ينعقد!

ولا يبدو الثوار السوريون بحالةٍ جيدة. ففضلاً عن التراجع العسكري أو التجمد دونما تقدم في شتى النواحي، هناك نزاعات بين الفصائل الإسلامية المسلحة المتواضعة القُدُرات في القتال، رغم السمعة الأسطورية لـ«جبهة النصرة» وأشباهها. وما يزال «الجيش الحر» سيء التسليح، وكتائبه غير مترابطة كما يجب. وهو مضطر لتقديم كشف حساب كل يوم حتى عن عدم استخدامه للسلاح الكيماوي، فضلا عن أنه لا علاقة له بالتطرف الإسلامي، بينما يبدو النظامُ غير مضطر لشيء بسبب حماية الروس له. وقد تقدم البريطانيون في مجلس الأمن بمشروع بيان يستنكر ما يجري بالقصير، ويطلب ممراً لإجلاء الجرحى، ولم يوافق الروس، وردَّ بوتن نفسه بالهجوم على بريطانيا والأوروبيين، والتبشير بأن الإرهابيين بالقصير في طريقهم للتصفية! وإذا كان مؤتمر جنيف 2 (بحسب البريطانيين) لن ينعقد قبل يوليو؛ فإنه بعد القصير قد لا ينعقد على الإطلاق، لأنّ النظام استقوى، ومُعارضوه يعتبرون الاشتراك استسلاماً.

لقد بدوتُ في هذه المقالة خبيراً عسكرياً، ولستُ كذلك، وإنما أردْتُ وصف الموقف من سائر جوانبه. هناك إصرار إيراني على تجديد الهجوم للاحتفاظ بمناطق النفوذ في العراق وسوريا ولبنان. وهناك إصرار إيراني أيضاً على أن يبدو هذا «الانتصار» باعتباره انتصاراً شيعياً على السنّة وعلى العرب بعد تصاعُد الآمال بخلاص سوريا (والعراق) وربما لبنان. لقد تحول الصراع بين النظام السوري وشعبه إلى صراع إيراني عربي، وشيعي سني، وتركي إيراني، وروسي غربي. وهي صراعاتٌ تتفارقُ وتتداخلُ وتتعدد، لكنها تستقرُّ عند نقطة تتعلق بالصراع على المنطقة وهويتها ودولها ومجتمعاتها بعد الثورات العربية. قال رئيس أركان «الجيش الحر»: لقد خسرنا معركةً، لكننا سنربحُ الحرب. وأملُ كلٍ منا أن تنتصر حرية الشعب السوري بعد هذه المآسي الكبرى، ولن يكونَ ذلك إلا إذا اعتبر العربُ أنفسهم معنيين مثل الإيرانيين وأكثر!

المصدر: صحيفة الاتحاد